موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

الحب في التشريع الإسلامي/ الجزء الأول

انه اذا كانت بعض التشريعات قد اتخذت "القوة" أساسا لها, ومحوراً ومنطقاً وبعضها الاخر جعل "المادة" منطلقاً ومحوراً. وبعض  ثالث اعتبر "الحرية المطلقة" هي المنطق والاساس.. وهكذا..
فان الاسلام.. هذا الدين الخالد, قد نظر الى الانسان نظرة اكثر دقة وشمولاً عندما رفض ان يكون كل ذلك, وسواه اساساً صالحاً  للتشريع, او منطلقاً واقعياً للنظم والاحكام..
ونظر الى الانسان بمنظار اخر, يعطيه هويته بما هو انسان, ويلبي احتياجاته بما هو كائن مرتبط بكل ما في هذا العالم, ويفجر فيه طاقاته, ليعمؤه, ويجسد فيه الحياة الفضلى, والعيش الكريم..
فكان ان بنى علاقاته على اساس اخر, يتلاءم مع فطرة الانسان, وينسجم مع طاقاته وقدراته.. لا يجحد حق موجود في سبيل تكريس امتياز لموجود اخر, كما انه لا يلبي احتياجات طاقة على حساب اي من الطاقات الاخرى.
هذا الاساس يمكن تلخيصه بكلمة واحدة, وبكلمة واحدة فقط وهي كلمة "الحب"..
وذلك لانه اذا كانت علاقة الانسان بالحياة, وبكل الموجودات الطبيعبة قائمة على اساس "الحب, والكره".. بل لقد بلغ حبه للدنيا حداً يجعله يهمل امر الحياة الاخرة "كلا بل تحبون العاجلة, وتذرون الاخرة" كما ان حبه العارم للمادة كان حباً جماً.. الى غير ذلك مما يؤكد حبه العارم للمادي مما في هذا الوجود – انه اذا كان كذلك – فان من الطبيعي ان يوظف الاسلام شعوره الفطري والطبيعي هذا, ويوجهه الى تحقيق الاهداف الخيرة والنبيلة, والى الوصول الى القيم والكملات الانسانية الرفيعة كما ان من الطبيعي ان يكرس هذا الحب في مجالات علاقات الانسان الاخرى, التي يهتم الاسلام بالهيمنة عليها. وضبطها والاستفادة منها لاسعاد النسان, وتأدية دوره البناء في الحياة, على النحو الاكمل , والاشمل والافضل.
واذا استثنينا الحديث عن علاقات الانسان بالطبيعة والكون, والتي قلنا انها قائمة على اساس الحب, فاننا نجد: ان علاقاته في سائر المجالات – والتي يلاحظ ان الاسلام قد بناها ايضاً على اساس المودة والحب – يمكن رسمها في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
1- علاقات الإنسان اولاً بنفسه.
2- علاقاته بربه, ومعتقداته.
3- علاقاته بغيره من بني الانسان.
ولو اننا حاولنا مراجعة النصوص القرآنية وكذلك نصوص السنة عن النبي (ص) واهل بيته لوجدناهما المعين الثر: الذي لايزال يفيض ويفيض كل ايات المحبة والمودة والحنان ومعانيها, وللمسنا في كل اية وفي كل قول ذلك الشمول في الحب الذي اراده الاسلام لمختلف شؤون الحياة ومجالاتها. واذا كان ما لا يدرك كله لا يترك جله. فاننا نكتفي بالاشارة الموجزة لبعض هذه الموارد. وقد نحاول ان نركز بشكل موجز ومحدود على البعض منها, حينما تقتضيه المناسبة, فنقول:
اننا قبل ذلك نود ان نشير الى ان الاسلام قد جعل العلاقة بين الانسان, وبين الحق والخير والايمان قائمة على الحب. فقد قال تعالى: "ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم, وكره اليكم الكفر, والفسوق والعصيان, اولئك هم الراشدون".
وقال: "فيه رجال يحبون ان يتطهروا, والله يحب المتطهرين".وقال: "واذا سمعوا ما انزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع, مما عرفوا الحق".وفي مقام التأكيد على فطرة الانسان على حب الخير, وان كان ربما تطغى على هذه الفطرة بعض المؤثرات الخارجية, قال تعالى: "وانه لحب الخير لشديد".وبعد هذا فاما عن علاقات الانسان بنفسه فجعلها قائمة على اساس الحب والمودة مما لايحتاج الى بيان, او الى اقامة برهان, لانه امر فطري جبلي ومع ذلك لم يترك له الاختيار في تعامله مع نفسه, بل منعه الاسلام من كل امر يضربها وحبب اليه كل امر ينفعها ويصلحها, وجعل اعتداءه على نفسه – بأي لون من الوان الاعتداء – لا يقل بشاعة وفضاعة عن اعتداءه على الاخرين, ولعل اطالة الكلام في ذلك بعد وضوحه مما لا يحسن ولا يجمل. ولا سيما بملاحظة الايات القرانية, والاحاديث الواردة عن النبي, واهل بيته الطاهرين.واما عن علاقاته بربه, فيكفي ان نشير هنا الى قوله تعالى: "قل ان كنتم تحبون الله, فاتبعوني يحببكم الله".وقله عن المؤمنين: "والذين امنوا اشد حباً لله".وقوله تعالى: (يايها الذين امنوا, من يريد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم, ويحبونه, اذلة على المؤمنين, اعزة على الكافرين, يجاهدون في سبيل الله, ولا يخافون لومة لائم, ذلك فضل الله يأتيه من يشاء والله واسع عليم".وقد وردت ايات كثيرة تميز الذين يحبهم الله, عن اولئك الذين لا يحبهم, فهو تعالى يحب التوابين. المحسنين. المطهرين. المتقين. الصابرين. المتوكلين. ...الخ
ولا يحب المعتدين. الظالمين. الخائنين. المسرفين. المستكبرين. الكافرين. ...الخ وستأتي الاية التي تؤكد على ان حب الله ورسوله, والجهاد في سبيله يجب ان يتفوق على كل حب.وبعد هذا فأننا نلاحظ: انه تعالى لا يقبل من محبيه ان يشاب حبهم له بموالاة اعدائه, بل لا بد من خلوص الحب له, كما لابد من خلوص الدين له "مخلصين له الدين". ويدلك على ذلك الكثير من الايات والروايات, بل في بعضها عد موالاة اعدائه كفراً وشركاً قال تعالى: "ومن يتولهم منكم فأنه منهم".وقال تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر, يوادون من حاد الله".وعن الحسين بن علي بن ابي طالب: "من احب كافراً فقد ابغض الله, ومن ابغض كافراً فقد احب الله".وقبل ان نمضي في الحديث نود ان نشير الى امر جدير بالملاحظة هنا, وهو اننا نرى انه تعالى قد بين ان هناك ملازمة بين الاتباع للرسول, وبين حب الله لهم حيث قال: ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..وذلك لان الذي يحب الله حقيقة لا بد وان يؤثر حبه على كل شيء مما تتعلق به نفس الانسان من اباء, وابناء, وعشيرة, ومال ومساكن الى اخر ما ستأتي الاشارة اليه في الاية 24 من سورة التوبة..
واذا اتبعوا الرسول فانهم سوف يتصفون بكل الصفات التي يحبها الله, ويرضاها ةيامر بها من: التقوى, العدل, والاحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر.. وغير ذلك.. لان الله بمقتضى نص القران الكريم يحب المحسنين. الصابرين, والتوابين الى اخر ما تقدمت الاشارة الى بعض منه...بل ان حب الله يجب ان يثمر ويعطي على نطاق اوسع, فيجب ان يمنع الانسان من ارتكاب اية معصية على الاطلاق.. قال الامام جعفر الصادق: "ما احب الله من عصاه" ثم تمثل فقال:
تعصي الاله وانت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لاطعته ان المحب لمن يحب مطيع
كما انه يجب ان يدفعه حبه هذا للتضحية وبذل المال مهما كانت حاجته ماسة اليه وقد مدح الله تعالى امير المؤمنين وأهل بيته بانهم: "يطعمون على حبه مسكيناً, ويتيماً واسيراً", لا لشيء الا لاجل حب الله وابتغاء مرضاته, "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً".واما بالنسبة لعلاقة الانسان بالرسول (ص) فقد بناها الإسلام ايضاً على اساس الحب والمودة.وقد قال القران لموسى: "والقيت عليك محبة مني".وقال تعالى: "قل ان كان اباؤكم وابنائكم واخوانكم وازواكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها, وتجارة تخشون كسادها, ومساكن ترضونها, احب اليكم من الله ورسوله, وجهاد في سبيله, فتربصوا حتى يأتي الله بامره, والله لا يهدي القوم الفاسقين".وفي معنى هذه الاية عدة روايات اخرى..
فعن الصادق: "لا يمحض رجل الإيمان حتى يكون الله احب اليه من نفسه, وابيه, وامه, وولده, واهلة, وماله, ومن الناس كلهم".وعن النبي (ص): انه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب اليه من نفسه, وابويه, واهله, وماله, وولده, والناس أجمعين".وروي عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله (ص), وهو اخذ بيد عمر بن الخطاب, فقال: والله, لانت يا رسول الله احب الي من كل شيء الا من نفسي, فقال عليه الصلاة والسلام: لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه..واذن .. فالاسلام يعتبر محبة الله والرسول, والجهاد في سبيل الله هي الاهم والاولى في قبال كل الاشياء الاخرى على الاطلاق.. ويعتبر طغيان حب النفس, والاباء والابناء والاموال, والمساكن – الخ – على حب هؤلاس خروجاً عن الفطرة, وطلماً للحب ان يكون مقدماً ومهيمناً في مختلف شؤون الحياة ومجالاتها.وإذن فحبه لكل شيء يجب ان يكون بمقدار.. وان لايظلم به حباً اخر, ولا على حساب مودة اخرى, والا فانه يكون عرضة للعقاب والانكار ولا سيما بالنسبة لحب الله ورسوله والجهاد في سبيله, لانه يعتبر ذلك هو الاساس في توجيه كل محبة وتوظيفها فيما فيه هذا خير هذا الانسان وسعادته.ومما يدل على انه يعتبر حب الله هو المعيار والميزان في كل حب ما ورد عن النبي (ص): "اوثق عرى الايمان الحب والبغض في الله).
وعن الصادق: "ان من اوثق عرى الايمان ان تحب في الله, وتبغض في الله وتعطي في الله, وتمنع في الله عز وجل".
وعن الصادق ايضاً: "لا يبلغ احدكم حقيقة الايمان حتى يجب ابعد الخلق منه في الله, ويبغض اقرب الخلق من في الله".
الى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه..واما بالنسبة لعلاقة الانسان, بالقائد بعد الرسول علي وبالائمة من بعده, ائمة الحق. فهي ايضاً قائمة على اساس الحب والمودة.. وذلك لان هذا الرابط العاطفي بالادلاء على الحق, والهداة الى سبيله بعد الرسول (ص), هو من اهم اسباب تحقق القدوة الحسنة,
والاتباع باحسان, الذي يقربنا الى الله, ويحببه الينا, ويحببنا اليه..وقد ورد في ان حب علي "كرم الله وجهه" ايمان وبغضه كفر روايات كثيرة عنه (ص) لا مجال لاستقصائها..وورد ايضاً: ان من احب علياً, فقد احب رسول الله, ومن احب الرسول (ص) رضي الله تعالى عنه.. وعن الزهري انه سمع انس بن مالك يقول: والله الذي لا اله الا هو, سمعت رسول الله (ص) يقول: "عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن ابي طالب".وقال تعالى بالنسبة الى محبة اهل البيت ومودتهم: "قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى".واما عن علاقات الانسان بالاخرين, فهي اول ما تيدأ بعلاقته بأبويه.. وقد جعل علاقته بهما من جهة, وعلاقتهما به من الجهة الاخرى قائمة على اساس الحب والمودة ايضاً..فأمرها ببره بعد بر والديهما وجعل له حقوقاً عليهما: كتسميته باسم حسن وتأديبه وتعليمه الكتابة, والوفاء بالوعد له, وتعليمه الطهارة, ومعالم الدين, والقران الكريم, واكرام امه وعدم الاساءة اليها, لان ذلك يوجب حزنه الى غير ذلك مما يضيق المقام عن تعداده..وخلاصة القول: انه لا بد وان يكون الاساس هو الحب والمودة, ولا سيما في مقام تربية الولد وتهذيبه, ان يشعر بأن ما يلقى اليه
صادر عن محبة واخلاص له, لان الانسان بطبيعته يخضع للحق اذا جاءه عن هذا الطريق.بخلاف ما لو جاءه عن طريق التحدي والغلطة والشدة فانه سوف ينفر ويبتعد عنه, ولو كان حقاً..
المصدر: دراسات وبحوث في التاريخ والاسلام.
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع