موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

نماذج تطبيقية لدور الزمان والمكان في الاجتهاد
الشيخ محمد ابراهيم الجناتي



كما للزمان دور في تحول خصوصيات الموضوع والاجتهاد , يمكن أن يكون للمكان دور في التحول أيضاً . اي ان يكون شيء في مكان ما من مصاديق موضوع الحكم بالتحريم , ويكون ذلك الشيء نفسه في مكان آخر من مصاديق موضوع الحكم بالجواز ; لذلك وضع فقهاء المذاهب الاسلامية احكاماً لدار الاسلام لم يقرّوها في دار الحرب , بل انهم وضعوا احكاماً خلاف ذلك في دار الحرب . وهذا الموضوع يحتاج بيانه الى دراسة تفصيلية , لكن من الضروري هنا تقديم نماذج منها :- النموذج الاول : وهو الربا المعاملاتي لا القرضي , الذي يحرم في المكيل والموزون فيما يكون حلالاً في المعدود , أي حرمة بيع عشرة كيلوات من الرز مقابل اثني عشر كيلواً . وكذلك بيع عشرة مكيالات من الحليب مقابل احد عشر مكيالاً . اما لو بيعت عشرة دنانير مقابل اثني عشر ديناراً , اذا ما قصد من ذلك المعاملة لا يعتبر رباً وحراماً على رأي المشهور ; لانه ليس مما يكال او يوزن . ومن الواضح ان البضائع تختلف من بلد الى آخر من حيث المعدودية او عدمها ; لانه يمكن ان تكون بضاعة ما معدودة في بلد , بينما تباع في بلد آخر بالوزن , فعلى سبيل المثال يباع الموز في بعض الاماكن بالكيلوات , وفي مكان آخر بالعدد وهكذا البيض و .... وفي مثل هذه الموارد على المجتهد ان يصدر حكمه طبقاً لما هو مرسوم ومعمول به في ذلك المكان ; لان الموضوع يختلف في مكانين من حيث الظروف والخصوصيات . وبالنتيجة يجب ان يكون الحكم ايضاً متفاوتاً , إذن لايمكن بيان حكم كلي دون الاخذ بنظر الاعتبار دور المكان في تحول الاجتهاد . النموذج الثاني : برامج الاذاعة والتلفزيون , حيث تكون في بلد ما وسيلة للصلاح والاصلاح ونشر المسائل والمعارف الدينية والاخلاقية , وفي بلد آخر تكون وسيلة لنشر الفساد والفحشاء , ففي هذا المورد لايمكن لأي مجتهد ان يصدر حكماً واجداً للمكانين دون الاخذ بخصوصيات كل منهما . النموذج الثالث : دور العرف في الاجتهاد , وفي مسألة اشتراط رضا الزوجة بالعقد تحديداً , جاء في الروايات ان اذنها صمتها ; اي ان سكوت البنت عند عقد الزواخ دليل رضاها , وهنا نلاحظ أن في زمن صدور هذه الرواية كان لهذا الامر حقيقة , وكانوا يكتفون بذلك عند ايقاع العقد ; لان مبنى الحديث هو عرف ذلك الزمان , اي زمن الرسول ( ص ) . لكن اليوم حيث تغير العرف فلا يكمن الاكتفاء بسكوتها عند اجراء العقد ; لان الحديث كان مبنياً على عرف ذلك العصر , وقد تغير, اذن يجب على البنت اعلان رضاها عن طريق اللفظ , ولايمكن الاكتفاء بسكوتها . النموذج الرابع : دور الاحوال في الاجتهاد , إذ نشاهد في اجوبة رسول الله ( ص ) وائمة اهل البيت ( ع ) , انها كانت تتناسب وما كان عليه حال الناس ; لذا نشاهد اجوبة مختلفة لسؤال واحد يطرحه اشخاص متعددون , وسبب اختلاف اجوبتهم هو اختلاف احوال السائلين , كالطبيب الذي يصف الدواء لمرضاه طبقاً لحالاتهم وضروفهم المرضية المختلفة . ونموذج آخر , وهو قصة تبول احد الاعراب في مسجد رسول الله في المدينة امام الناس , فهاج اصحاب رسول الله وارادوا ان يعاقبوه على فعلته , فمنعهم رسول الله ( ص ) عن ذلك , وامرهم ان ينظروا الى حدود فهمه وادراكه وملاحظة بيئته , فهو اعرابي ولم يتأدب بعد بآداب الاسلام , ثم امرهم بتطهير المكان واخلاء سبيل الرجل . دور الزمان في الاحكام الحكومية لاشك ان للزمان دورا في تحول خصوصيات وظروف الموضوعات التي تؤدي الى الاحكام الحكومية , ففي زمان معين – مثلاً – وبسبب ظروف خاصة ربما يكون استعمال شيء او شرب نوع من المشروبات الغازية او بيع وشراء بضاعة معينة يؤدي الى دعم البنية الاقتصادية عند الكافرين واعداء الاسلام , واضعاف الحكومة الاسلامية , في ذلك الزمان يرى الحاكم الاسلامي من الواجب عليه تحريم ذلك الشيء , حتى ترتفع آثاره ونتائجه السيئة , وفي زمان آخر ليس هناك آثار ونتائج سيئة لبيع او شراء البصاعة الفلانية او اكل الغذاء الفلاني او استعمال الشيء الفلاني , فيحكم الحاكم بحليتها , ومن ذلك ماافتى به المرحوم الميرزا الكبير الحاج محمد حسن الشيرازي في حرمة استعمال التنباك وموارد اخرى من هذا القبيل لاضرورة لذكرها . ففي الموارد المذكورة لم يتحول حكم الشريعة المترتب على موضوعاته الاصلية من منظار الفقه الاجتهادي , بل تغيرت الخصوصيات الداخلية او الخارجية للموضوعات على مدى الزمان ; بسبب التطور التقني والتقدم في الوسائل الطبية الحديثة والتفكير العميق والدقيق ونوع الاستعمال او ان يكون قد حصل تغير في الاحوال والامكنة او في العرف , فأصبحت لها خصوصيات اخرى , فأدى تغير الموضوعات او الاماكن او العرف او الاحوال الى تغيير احكامها بشكل طبيعي على اساس المباني الشرعية المعتبرة وعن طريق الاجتهاد . ] اذن , مع ان الموضوع في الموارد المذكورة في الزمن الماضي والحاضر وفي الاماكن المختلفة واحد في الظاهر , الا ان تغير خصوصياته حوّله في الحقيقة الى موضوع آخر ; لذا وجب ان يكون له حكم آخرايضاً , واذا ما عادت اليه الخصوصيات الاولى نفسها , في هذه الحالة سيعود الحكم الاول اليه ايضاً . [ وبهذا , لايرد الاشكال الذي يطرحه البعض في حلية بعض الاشياء التي كانت في السابق محرمة او العكس ; لأنها كانت محرمة في السابق بسبب الخصوصيات التي كانت لها , اما اليوم فإن خصوصياتها تلك قد تغيرت وهذا ما جعلها محكومة بالحلية والاباحة . اعتبار النبي والخلفاء للزمان والمكان والاحوال النموذج الاول : نقل في المصادر ان النبي ( ص ) كان يطوف حول الكعبة وحولها ثلاثمئة وستون صنماً , فلم يتعرض لها طوال الفترة المكية حتى دخلها فاتحاً فكسرها . النموذج الثاني : لم يقطع النبي ( ص ) يد السارق في الغزو خوفاً من أن يحمله ذلك على الفرار الى الكفار , وهذا مثال على اعتبار النبي ( ص ) للمكان . النموذج الثالث : قال النبي ( ص ) لعائشة لولا حداثة قومك بالجاهلية لهدمت البيت وبنيته على قواعد ابراهيم , وهذا منه ( ص ) اعتبار للحالة التي هم عليها وهي قرب عهدهم بالجاهلية . النموذج الرابع عدم قطع الخليفة الثاني يد عامر الرمادة اعتباراً بالحالة التي كانوا عليها من الجوع والفقر . ولذلك كله , نحن نشترط في المجتهد ان يكون عالماً بشرائط الزمان وأحوال الناس وعوائدهم واعرافهم , ولكن بناءه على هذه الاصول يحتاج الى فهمه الدقيق لمقاصد الشريعة . ومن الضروري هنا الاشارة الى نقطتين بشكل سريع : 1- ان تحول الزمان ووقوع المستجدات او التحول في المكان والعرف او الاحوال لايؤدي الى حكم ثانوي للموضوع , لأن ذلك يحصل للموضوع الواحد الذي له حكم أولي للمختاروحكم ثانوي للمضطر . لكن موضوع بحثنا غير ذلك , لان تحول الموضوع او المكان او العرف والاحوال على مدى الزمن هو نتيجة لتحول خصوصياته الداخلية او الخارجية الذي وإن كان يتبعه حكم آخر , الا ان هذا الحكم يعد اولياً لموضوع آخر , وليس للموضوع الاول حتى يعد حكماً ثانوياً. 2- تحول حكم موضوع الى حكم آخر بسبب تغيره , لايتنافى وقوله ( ص ) : (( حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة )) , لان ذلك في حال ترتيب حكم آخر دون تحول في موضوع الحكم , اما بتحول الموضوع – الذي هو المفروض في البحث – فلا بد ان يترتب عليه حكم آخر . وبناءً على ماتقدم , يمكن تلخيص الرأي الاساس للفقه الاجتهادي في الاسلام , بالنحو التالي : احكام الشريعة ثابتة بطبيعتها , ولاتتغير بتغير الاحداث والوقائع على مدى الزمن , لكن علينا ان نعلم , ان لها موضوعات وملاكات خاصة , وما شرّع الشارع المقدّس تلك الأحكام الا بلحاظ هذه الموضوعات مالملاكات . اذن , مالم تتغير تلك الموضوعات على مدى الزمن او حسب المكان او بواسطة العرف والاحوال , فإن احكامها ايضاً تبقى ثابتة غير متغيرة . أما اذا حصل فيها تغيير على مدى الزمان , او بسبب المكان وما الى ذلك , نتيجة تحول وقائع ومظاهر الحياة الحديثة والعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية , في هذه الحالة تتغير أحكامها ايضاً وتجري عليها أحكام جديدة . وهذا يتطابق والموازين والملاكات التي وضعتها شريعتنا نفسها .
المصدر : مجلة التوحيد / العدد 80 / 1996

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع