مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 الحاكمية الالهية .. حكم الأمة والشعب. 
عادل عبد المهدي


هل تقف الحاكمية الالهية ضد حاكمية الامة والشعب؟ وهل اذا مااريد إقامة حكم الشعب فان شرط ذلك إلغاء الحاكمية الإلهية ! هل هناك فعلا من تناقض؟ وهل ينطلق التصادم والتنافر من العناصر الرئيسية المكونة لكل من الدعوتين ,بحيث لا تنتصر واحدة على حساب أخرى,أو أن لكل من الدعوتين الموقع الطبيعي والمتوازن الذي تحتله,واذا ماتم احترام ذلك فان التكامل والانسجام سيأخذان مجراهما لتزدهر الفكرتان والدعوتان,ويرفدان بعضهما البعض الآخر ؟
الحقيقة الاولى: الحقيقة الدينية
الحاكمية الالهية :لا يختلف اثنان من المسلمين أن الحاكمية الاولى والاخيرة تعود لله سبحانه وتعالى,لم يقل لا الشيعة ولا الاشاعرة ولا المعتزلة ولا غيرهم بغير هذه الحاكمية ,لان ذلك من جوهر الدين والاعتقاد والايمان بعبودية الانسان لخالقه.بل لا يمكن لمختلف الديانات أن تقول بخلاف هذه الحاكمية والإ سقط المعنى الاول للدين والخالق والخلقية والنشأة والتوبة والعقاب والبعث والجنة والنار.
لكن الامر ليس بهذه البساطة,إذ طالما تتعرض هذه الحاكمية لانواع مختلفة من التحريف والاستلاب,ولايمكننا هنا إلا أن نضع عنوانين كبيرين لا شكال الاستلاب نلخصهما كما يلي:
1- استلاب الذات الالهية:
أي عمليات التقمص والتجسيد:
شهد كل اشكال الايمان وكل الديانات السماوية وغير السماوية شكلاً من اشكال التجسيد وادعاء الحق الالهي,أما ابتداءً بالنسبة للاديان غير السماوية,أو لاحقا بتحريف التعاليم السماوية.وهذا التحريف هو ليس بالامر اليسير,وهو لايتعلق بصدق أو سوء النوايا فقط ,بل هوبدوره من جوهر الابتلاءات والامتحانات التي تجد مصادرها في طبيعة النفس البشرية,كما جبل الله سبحانه وتعالى هذه النفس.
ان هناك سعياً فطريا للبحث عن خالق او سيد هذا الكون هذا السعي الفطري قد يأخذ في احد اشكاله السعي البدائي الذي لا يقبل إلا ببرهان يراه ويلمسه ويشخصه.والقرآن الكريم ينقل هذه الحالة الفطرية أو الجدلية في طبيعة الانسان..(وإذ قال ابراهيم لابيه ازر اتتخذ اصناماً الهةً اني اراك وقومك في ضلال مبين.وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين,فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لااحب الافلين.فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين,فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال ياقوم اني بريء مما تشركون,اني وجهت للذي فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين).
هذه التصورات تلخص اسئلة كثيرة ومحاججات طويلة في النفس الانسانية تتمثل بمجموعها سعي الانسان للبحث عن خالقه,فمنهم من يهتدي ومنهم من يستمر على ضلاله في مسيرة معقدة يمر عبرها بمخاضات عديدة واسئلة كثيرة يكدح فيها الانسان الى ربه وهو ما قد تعبر عنه الآية الكريمة:( ياأيها الانسان انك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه).
فالانسان في مسيرته المعقدة الطويلة حاول ان يجد خالقه فمنهم من وصل,ومنهم من اصطنع من آيات الله أو من هواة الهة.انه يكون (اشور) كما عند الاشوريين,أو (مردوخ) كما عند البابليين,و(لايوس) كما عند اليونان وقد يكون (جوبيتر) كما عند الرومان,وقد يكون (اللات والعزى) كما عند العرب,و( اهورامزدا) كما عند الفرس,وهو قد يكون النار أو الماء,أو الجبل أو النهر,وهو قد يكون فكرة أو فلسفة كما عند (بوذا) او (كونفوشيوس) لدى الهنود والصينيين,أو قد يكون نظاماً اجتماعيا أو فكرة شعبوية فتضفي الحلولية الربوبية على الشعب أو الحزب أو العلم او النظام دون أن تعلم انها تسقط – ولو ايجابيا- في شكل من اشكال التقمص والتجسيد الحسي أو الفكريووالتي قد تتحول الى اشكال سلبية تماماً اذا ما استحلت المقدس الحقيقي ولم تسر في خطة الطولي وتؤمن بمرجعيته.
فكما أن النزوع الى الخالق هو نزعة طبيعية للانتقال من محسوس الحواس الخمس,المحدود,المجزاوالمؤقت الى المحسوس القلوب,الدائم,المطلق,الواحد الاحد.فان النزعة التي تسير بالضد من ذلك هي ايضا نزعة طبيعية كما نرى ذلك في اليهود عندما يتركون كلام الله ليتعبدوا بكلامهم أو كما يصفهم الله سبحانه وتعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لايهدي القوم الظالمين,قل ياايها الذين هادوا ان زعمتم انكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين),عند النصرانية عندما يتركون خالقهم الحقيقي ليتعبدوا بجسد الرسول والمخلوق : ( يااهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم انما الله اله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا).
أو عند المسلمين عندما يتركون ما يأمر به الخالق ليتعبدوا بما يأمر به المخلوق..(ياأيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً,إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا).
هذا السعي بقدر ما يعكس اهمية المحسوسات في حياة الانسان,يعكس ايضا اهمية الغيبيات لديه,وان بؤس الفكر الالحادي المادي كبؤس الفكر الخرافي الاسطوري كلاهما يغرقان في الغلو والتطرف .الفكر الخرافي أو الاسطوري يمدد الحقائق ويخترع التصورات ويعطيها ابعادا وهمية.هذه هي الخطوة الاولى,اما الخطوة الثانية وبعد ان تؤسس الخرافة مكانا في عقله وتصرفه فانها ترتد على حياته الفعلية تنتقص منها وتجعل الانسان عدو نفسه,تسجنه في الاوهام,يعتقد انه يحتضن الحقيقة الشاملة والمطلقة,بينما الحقيقة هي انه يعيش الجهل والمجهول.في حين يقتطع الفكر الالحادي المادي الحقائق ويجتزىء المكونات ليصنع لنفسه فكرة ورؤية تقوم على المباشر والمحسوس فقط.هذه هي الخطوة الثانية,وبعد أن يؤسس المحسوس المحدود أو هاماً وقاناعات ناقصة ووهمية لا يستطيع ان يرى غيرها,يبدأ بتأسيس حتمياته ويعلن عن قدرياته كيف سار التاريخ وكيف سيسير,راسما لنفسه أعلى درجاته القدرية والحتمية ,معتقداً بها بشكل مطلق وشمولي.
2- استلا ب الموضوعات القدسية:
لا يتمثل الامر فقط بتحرك العوامل الفطرية بشكلها الابتدائي فقط,او بعمليات الانحراف لمن ارتد عن الله سبحانه وتعالى.فنزعة التجسيد والتقمص كانت اقوى من نزعة الايمان لديه.بل يتعلق الامر بتحرك العوامل الشيطانية وعوامل الفجور في النفس, فتتحرك نزعة الاستبداد الفعلي أو العقلي لتطلق ممارسات استبدادية جبروتية تنتهي عن طريق الاحكام وتحريفها وادعاء الهيمنة عليها الى شكل من اشكال تنصيب الانسان نفسه إلهاً معلناً أو غير معلن في الارض,والادعاء بانه يمتلك مفاتيح العلم الالهي الذي لايقبل نقاشاً أو انتقادا.فهو كسرى وفوعون وقيصر ويزيد وامثالهم,وهو السلطان الجائر والحاكم الظالم والمفتي أو الفقيه الكاذب,وهو حاكمنا الراهن ودولنا المستبدة التي تعصي الله سبحانه وتعالى في اعمالها وتصرفاتها,وتعتدي على حقوق الله والعباد فتعطل حلالاً وتحلل حراماً,كل ذلك باسم الدين والاسلام.
انه ايضا استبداد النزعات الاجتماعية التي تطلق المفاهيم الشمولية طبقية أو حزبية أو تنظيمية أو علمية أو غير ذلك فتخرج الاشياء من حدودها لتعطيها الاطلاق,والتي تهدف الى اسر الانسان وايجاد مرجعية عقلية أو مفاهيمية أو تنظيمية فوق مرجعية الله وحاكميتها.فالالوهية قد تأخذ شكل النظام الاجتماعي فتجعلها تعسفاً مقدساً مطلقاً يتقدم على المقدس الحقيقي والوحيد.
الحاكمية الالهية ثابتة لاتتغير " ما اختلف عليه من الدهر فيختلف عليه الحال,ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال".
تطل على المكان دون أن تتمحور فيه وتدور في الزمان دون أن تنغلق عليه,فيأخذ منها الزمان ما يناسب وقته,ويأخذ منها المكان ما يناسب ظرفه,فهي اعظم من كل الازمنة والجغرافيات,تلهم الاحكام الجارية تراقبها وتدقق في مدى اقترابها أو ابتعادها عن بواطن الاحكام.الحاكمية الالهية كالذات الالهية قريبة من الانسان بدون التصادق وبعيدة بدون افتراق.
الحقيقة الثانية :الحقيقة الاجتماعية السياسية
إن احدى المسائل التاريخية والمعاصرة هي التفاعل بين الديني والاجتماعي / السياسي,وقدرة الديني على احتواء الاجتماعي / السياسي,وقابلية الاخير على الانصهار في الديني,وتحويل النصوص والتعاليم الى قيم واخلاقيات واحكام,لها من القوة والنفوذ.والاهم منذلك كله لها من الاستمرارية والشرعية ما يجعل التفاعل بين الديني من جهة و الاجتماعي / السياسي من جهة أخرى مسألة متكاملة لا تتعارض ولا تقف واحدة بالضد من الأخرى.هذه هي مهمة الديني,فإما أن ينتقل الى الاجتماعي / السياسي,أو أن يغزوه الأخير فيسخر لنفسه.
عملية التحول هذه قد تأخذ شكل صراع بين الديني و الاجتماعي / السياسي,وقد يأخذ شكل تكامل احتواء. فالاجتماعي / السياسي قد يستعير مفرادات الديني وقد يستعير الاخير مفردات الاول.واذا كان هذان الشكلان والصراع بينهما قد ظهرا بشكل واضح في اوربا,إلا أن هذه الاشكالية هي امر عام موجود في جميع المناطق وفي كل الديانات والمجتمعات,لقد ظهر واضحاً في اوربا لان ( الديني ) بقي طويلاً يسيئ التعامل مع الاجتماعي فكان لا بد للاجتماعي / السياسي أن يرتد بقوة على ( الديني ) ,وهي العملية التي اخذت بعدها التاريخي بما صار يسمى بالعلمنة والدولة الوضعية.لكن العلمنة لم تلغ (الديني) لا على صعيد الاجتماعي ولا على صعيد السياسي,حيث ما زالت مفاهيم ( الديني) لها من النفوذ والقوة الضمنية والصريحة الشيء العظيم,ذلك اذا ما تجاوزنا بعض المسائل السطحية والشكلية.فهذه المسألة يجب النظر اليها ليس من خلال الشعارات والخطاب العام الذي يذكر,بل من خلال المواقع والانتماءات والهياكل والفئات التي يدافع عنها الغرب.والأهم من كل ذلك من خلال المرجعيات القيمية التي يؤطر نفسه ضمنها والتي تمنحه الديناميكية والحيوية لفعل مايريد أن يفعله.
أ- خذ مثلا عدد الاحزاب الرئيسية التي تسمى نفسها بالاحزاب الاشتراكية المسيحية,خصوصا في دول وسط اوربا الغربية.وكذلك الاحزاب التي تحمل امتدادات مسيحية رغم انها تحمل اسماء اخرى.
ب- خذ طرق التعليم والدراسة التي تقول انها علمانية ,لكنها علمانية تختلط بامتدادت للقيم المسيحية.ليس المهم الدفاع عن كنيسة أو اكليروسية معينة.بل المهم حالة الانسجام بين (الديني) والاجتماعي,السياسي كما تطور في الغرب.
ج- خذ مثلا الدعم والمركز العظيم الذي يحتله البابا من قبل ما يسمى بالدول العلمانية..واعطاءه عاصمة وسط اوربا وتوفير تغطية اممية لتحركاته وسفراته وهيئاته ليبث قيماً قد تختلف في بعض التفاصيل عن ما تقوله هذه الدولة أو تلك,لكنها تتفق في سياقاتها العامة مع الاهداف التي نظمها الغرب لنفسه في تطوره المعاصر والذي استطاع من خلاله أن يسيطر عللا العالم والذي يسعى عبره الحفاظ على مواقع السيطرة هذه.
د- خذ مثلا العملات الوطنية حيث الرموز الدينية..فها هو الدولار يسجل على أحد وجهيه "بالرب نؤمن" وها هو الصليب يظهر على الفرنك السويسري والبارون الاسترليني وغيرهما من عملات!
ه- خذ مثلا عددا من الهيئات الانسانية التي اصبحت منظمات ذات ابعاد عالمية,وان منظمة الصليب الاحمر ما هي سوى واحدة من هذه المنظمات المقتدرة القوية.
و- خذ مثلا حقيقة ان ملك أو ملكة المملكة المتحدة هو أو هي بالضرروة زعيم أو زعيمة الكنيسة الانجيليكية ومداليل هذه الزعامة تدل على علاقة ( الدين ) بالدولة.
ز- لكن افضل مثال يقدم في هذا المجال – رغم كثرة الامثلة- هو ان اهم قضية يعيشها العالم منذ اكثر من قرن هي تنظيم الغرب – بكل ما يدعيه من علمانية – لمشروع قيام دولة اسرائيل انظلاقاً من ادعاءات "دينية" ومطالبات توراتية تعود لعشرات القرون السالفة, هذه الحقيقة التي اخذت ابعادا خطيرة وامتدت كالاخطبوط الى الاقتصاد والاجتماع والقيم والاعلام والسياسة,وسياسات التسلح والقنابل النووية وغيرها ليست بالمسألة التي يمكن بعدها التعامل ضمن منظور فصل الديني عن السياسي / الاجتماعي أو العكس.فلا
احد يقوم بذلك , والغرب نفسه الذي يرفع لواء ذلك لا يقوم بهذا الامر,ولم تستطع التجربة الاشتراكية أن تحقق ذلك,فلكل دينه بمعنى من المعاني ولكل دين حقيقته الاجتماعية السياسية بمعنى من المعاني.
خلف الرموز والشعارات هناك برامج ونماذج وقيم وسياسات هذه القيم والسياسات هي للاستحواذ وليس للتعميم, اي أنها تطورت من اجل الهيمنة واستعباد الآخرين,وليس من اجل حرية الكل وتحرير المجموع,هذه هي الصورة التي مثلها الاستعمار وما زال يمثلها والذي يحاول البعض اخراجه من عوامل العلة والاسباب وجعل النقاش مجرد خلاف في بعض المفاهيم او مجرد عملية تقدم وتحرر لطرف ,وتخلف وتحجز لطرف آخر.هذا الواقع الذي نلخصه بهذه الكلمات يتركنا امام خيارين لا ثالث لهما:
1- اما ان نقبل التعميم ونحتذي بظاهر ما يقولون ولا نرى حقيقة ما يفعلون فنفصل الديني الحقيقي ( الاسلام ) عن السياسي / الاجتماعي لشعوبنا وامتنا.حينذاك سنفرض على شعوبنا وامتنا ديناً شئنا أم أبينا وسنستورد الكلمات ميتة غير فاعلةولتبقى الحيوية عندهم ويبقى التخلف والتحجز عندنا.
2- او أن نعجز عن تحريك دورتنا وبث الحيوية في اوصالنا فيلتحم الديني بالسياسي / الاجتماعي بتكامل وتوالفودون أن يعطل هذا دور ذلك ودون ان يقف الاخير حجر عثرة امام الاول..اذا عجزنا عن احداث عملية التحام الديني بالاجتماعي / السياسي وترتيب دوائر تكامل وانسجام بينها..فان الجفاف سيصيب عروقنا وستتعطل دائرة الحياة في شرايننا.
الغرب لا يتراجع دينياً , بل يجدد ويطور دينه.
الحقيقة الواضحة أن ( الديني ) المسيحي اليهودي مهد لقيام الدولة العلمانية..فجذور العلمانية قد قامت منذ ان فصل ( الدين) عن الدولة..وفصل الايمان عن التشريع وغيرها من مفاهيم وذلك بعد الدور الكبير الذي لعبه دخول الافكار المسيحية في الامبراطورية الرومانية..كما أن العلمانية المعاصرة لم تتخل عن الخلفيات المسيحية اليهودية وعن تراث التوراة القديمة والجديدة كما كتبه التلمولايون والقديسون.فالعملية كما تمت تاريخياً عبر الدولة وعبر وسائل عديدة,فبدل أن تحملها المفردات الدينية باشكالها الرمزية والهيكلية القديمة فانها حملتها بمفردات وهياكل سياسية واجتماعية جديدة.هذا النوع من ( الدين ) الجديد يستطيع ان يجدد نفسه ليس فقط على صعيد مناطقه التي انتشر فيها تاريخياً...بل يستطيع أن يمتد ويجدد نفسه عالمياً..
الاهم من ذلك انه لا يجدد نفسه كمجرد حقيقة دينية ,ينقلها الرهبان والحاخامات والمبشرون الناكسون الزاهدون,بل ينقل نفسه اولا وقبل كل شيء عبر "الكنائس" و"البيع" الجديدة التي تمثلها الدولة وبيوتات المال ومراكز الاعلام واشكال خاصة من انظمة التعليم واشكال محددة من الرموز الجديدة تطلقها طقوس وعبادات جديدة وموسيقى خاصة وايقاعات وحركات خاصة واشكال فنية خاصة وانماط من العلاقات والمفاهيم والقيم والمعاملات والطموحات
,تدخل وتخترق جميع الانظمة المفاهيمية والقيمية ,تشمل المسلمين انفسهم.
فما يجب النظر اليه كأمر بالغ الاهمية هو ليس فقط اشكال السيطرة أو الهيمنة الشكلية,كاشكال الاستعمار والاستغلال القديم والحديث,وغير ذلك من انظمة للسيطرة والهيمنة,بل يجب التدقيق والنظر ايضاً في القدرة العظيمة على تجديد المفاهيم وانتقال المفهوم من حقيقته ( الدينية ) الى حقيقة اجتماعية وقيمية عامة تبدو حيادية ..تبدو كلية وعامة وكأنها للناس جميعا..فخلف العموميات تختفي شتى المفاهيم التي تنظم الرؤى والتي تخدم علاقات محددة من التحكم..مفاهيم عن الحياة والموت والجنس والطفولة والشيخوخة والبلوغ والمرأة والرجل..ومفاهيم عن الفردية والجماعية..واللباس والعمل ومفاهيم اللذة والسعادة والصدق والامانة..وغيرها من مفاهيم وانظمة تعتبر في النهاية,الاطار الذي ضمنه تنشأ الاجيال وتتكاثر أو تفرخ المفاهيم وتكتسب لنفسها شرعية وقبولية تتلائم كلها مع الحقائق السياسية والاجتماعية والدينية متكاملة في علاقتها بنفسها من جهة..وفي علاقتها مع الآخر من جهة اخرى.
لن نضرب امثلة كثيرة عن اعادة تجديد المفاهيم رغم انه يمكن الكلام طويلا في كل مسألة من هذه المسائل بالكثير من الامثلة...خذ مثلا كلمة الصدق اوالامانة...المفكر الاسلامي الكبير محمد عبده عند زيارته لاوربا قال كلاما في غاية الاهمية والخطورة..قال وجدت اسلاماً ولم اجد مسلمين...لقد وجد الصدق والامانة والاخلاص في العمل وروح المساعدة والتفهم..وهذه كلها من الاهداف التي يسعى الاسلام لتحقيقها والوصول اليها..كل هذا صحيح فانك تجد اليوم في الغرب اناسا لا يعرفون الكذب على الصعيد الفردي أو الشخصي...لكنك عندما تطرح المسائل العامة أو التي لها مساس بنظام قيمهم واخلاقياتهم فتسأل احدهم بما في ذلك اناساً لا يمكنك على الصعيد الفردي إلا أن تتحترمهم وتقدرهم وتقول له مثلاً: ايهما اهم محاكمة رجل قتل يهوديين قبل 50 عاماً,أم محاكمة اناس يقتلون اليوم الالآف المرات في لبنان وفلسطين وآسيا وامريكا..عند ذاك ستجد المغالطات والتزوير والغش في النقاش والانفعال في المواقف ومظاهر الحقد والرغبة في الانتقام والعزل والغدر...نعم ان الصدق والامانة امر مهم ,لكن الصدق والامانة ليسا امراً ذاتياً فقط,وليسا غطاء لخدمة التزوير والغش الجماعي والعالمي,حيث تصنع انظمة الاعلام ووسائل الاعلان ومؤسسات التأمين والمصارف والسياحة,حقائق كاذبة في كل وقائعها,لكنها هي التي يصدقها الناس,لانها هي التي تحمي انظمتهم وامتيازاتهم ومواقعهم.فيتحول الصدق والامانة الفردية الى واجهة لتمرير الكذب والاستغلال والغدر الجماعية,التي تعمل تحت غطاء الشرعية الدولية وباسم القوانين والنظام والمفاهيم القيمية والدولية الشمولية والعامة.
اننا لا نشير الى هذه الامور من مواقعنا كمسلمين..بل نشير اليها كحقيقة عامة..فالهجوم الاول الذي شنه الغرب الاوربي بعد أن اعاد تكوين نفسه "دينيا" واجتماعيا,كان في البداية ضد النصرانية واليهودية.
فالحملات الاولى التي شنها الصليبية الجديدة كانت ضد البيزنطيين والاقباط والكنيسة الشرقية بكل فروعها والتي بقيت تحمل الكثير من تراث سيدنا المسيح ( ع )..الحملات الاولى شنتها الصليبية الجديدة ضد اليهود في الاندلس وفي غير الاندلس.
اعادة تجديد "المسيحية"و"اليهودية" في القرون الاخيرة أخذت اشكالاً متعددة,فظهرت البروتستانتية والانجيليكية والكاثوليكية الحديثة واليهودية الجديدة,والتي سعت عبر عملية طويلة متشابكة لا حتواء كل الديانات والتي نجحت الى حد كبير في ذلك عبر نجاحها في ايجاد اجتماعي / سياسي له درجة عالية من التجريد ويضفي على نفسه درجات عالية من الحيادية والعمومية,مما يسهل امامه كسر الحواجز لا من اجل المساواة والحرية والاخاء بين الحضارات والامم,بل من اجل هيمنة امة على امم ومن اجل احلال حضارة محل حضارات..والسعي جار لاحتواء كل المفاهيم وكل الديانات لكل الشعوب والحضارات لتوحيد الرمز والمصطلح والمفهوم والقيم والتي هي في النهاية قيم " الدينيط والاجتماعي / السياسي الغربي,مرة تحت اسم التقدم ,ومرة تحت اسم الحضارة ولاحقاً تحت مفهوم النظام الدولي ,لنصل اخيراً الى مفهوم العولمة.
لذلك فالكنائس التي يقول البعض انها تهجر في اوربا,هي تلك التي هجرت دينها القديم,ولم تستطع أن تتكيف مع ( الدين) الجديد..بالمقابل تبنى "كنائس" و"بيع" جديدة ليس بالمعنى المعماري أو الكهنوتي القديم,بل الاهم وقبل كل شيء بالمعاني والمفاهيمية الجديدة..فتكتظ الملاعب باشكال جديدة من "الكنائس",وتظهر رموز أو صلبان أو طاقيات رأس جديدة ..ويظهر قديسون من المشاهير لا يحملون بالضرورة رموزاً قديمة بل يحملون الدعوات الجديدة والاعلانات التجارية والترويجات التي تقف خلفها شبكة معقدة من المصالح والصناعات..الخ.
تعبر المفاهيم عن نفسها عبر صور وممارسات "عبادية" جديدة بوسائل جديدة اكثر فاعلية وانتشارا وتأثيرا على النفوس والعواطف والغرائز..حيث تختلط الآلة بالدخان بالحركات,كل ذلك في اجواء من الطقسية التي تفوق في فاعليتها وأسرها للالباب والنفوس اعظم ما عرفته الانسانية لحد الان من طقوس وممارسات.
صارت "الكنيسة" التي نجلس صامتين نسمع مواعظها تدخل علينا البيوت,تخترق الحدود ,تأتي الينا ولانذهب اليها...عبر شاشات التلفزة والفضائيات ووسائل الاعلام والبث والصور الجماعية التي تدعو لافكار محددة رغم اللغة الحرة التي تدعيها..وتخفي وراءها منظومة كاملة من القيم الخاصة والممارسات المحددة جدا والهادفة تماماً.
لذلك لا يمكن للديني الاجتماعي الغربي أن يرى الآخرين إلا ضمن هذه النظر..( فاذا اراد الاسلام أن يحتل لنفسه موقعاً داخل هذه المنظومة ,فانه لا يستطيع أن يحصل على مقبولية "الديني" الاجتماعي الغربي إلا اذا ما بدأ اولاً بافراغ محتواه وتدميره قيمه ومفاهيمه والأسس التي يقوم عليها ليعيد صياغتها,ليس وفق مصالحه ورؤاه الرئيسة,بل وفق المعايير والضوابط التي تسمح له بالتناغم مع المعايير والضوابط التي تخدم عملية تجديد " الديني " الاجتماعي السياسي الغربي لنفسه...).فعندما ينطلق مفكر فرنسي كبيرك (اتيان برونو ) ويدعو المسلمين لتنظيم انفسهم في ( كنيسة جديدة ) فانه لاينطلق في ذلك من خبث أو سوء نية,بل هو ينقل ما يفكر به في اطار النسق كما تطور عليه " الديني الاجتماعي / السياسي في الغرب ذاته.
ولاية الفقيه..نظرية معاصرة للحاكمية الالهية
الانجاز العظيم الذي قام به الامام الخميني ( رض ) هو ايقاف النزف في المسيرة الاسلامية واظهار قدرة الاسلام للعودة الى تنظيم رؤية سياسية واجتماعية تستطيع في نهايات القرن العشرين الميلادي أن تعود الى المسرح السياسي والاجتماعي بعد أن اصاب اليأس الكثيرين واعتقدوا أن الاسلام هو دين الماضي وليس دين الحاضر والمستقبل..أو أن الاسلام هو دين ينظم العبادات ولاعلاقة له بالشؤون الاجتماعية والسياسية.
لكن انتصار الثورة الاسلامية والنجاح في اقامة الحكومة الاسلامية بقدر ما هزت العالم وادخلته في مرحلة جديدة مازالت تضج بالتفاعلات والاحداث الخطيرة التي ساهمت مساهمة رائدة في انهاض عموم قوى الامة إلا انه في الحقيقة هي انجاز مرحلة الجهاد الاصغر وفتح الباب على مصراعيه لمهام مرحلة الجهاد الاكبر.
ان الحقيقة الكبرى التي عكسها انتصار الثورة هو تحقيق امرين وليس امرا واحداً كما يتصور البعض.
1- قيام الحكومة الاسلامية على اساس نظري يعتمد مفهوم ولاية الفقيه..هذا الاساس هو القاعدة الاولى لتطبيق العدل والحاكمية الالهية..حاكمية لاتحمل معاني الكهنوتية أو الطبقية أو الاستبداد الفردي..بل تعتمد اصول المبادىء الاسلامية في دور العلماء الذين يخشون الله : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وفي الاعتماد على الامة والأخذ بيدها في طريق معرفة الاحكام الشرعية والتعريف بها وإرساء الأسس الصحيحة للحاكمية الالهية.
2- اذا كانت ولاية الفقيه كعنوان لتطبيق الحاكمية الالهية ,تعتمد على نهضة العلماء وورثة الانبياء في تحمل مسؤولياتهم,فان الامر الآخر الملازم لمفهوم الولاية هو نهضة الامة واندفاعاتها الجديدة المباركة لتحمل مسؤولياتها ايضا...فبدون الامة يغيب متركز رئيسي من مرتكزات القيادة وولاية الامر.ولاشك أن دور الامة في تقرير مصيرها هو دور اساسي.وان كل النقاشات التي تسعى لاهثة لطمس هذا الحق واستلابه بهذه الحجة أو تلك هي نقاشات عقيمة لا تجد اي مجال لها للانتصار لولا منطق القوة والقسر والخداع.
فللرسالات السماوية مرتكزان وليس مرتكزاً واحداً..
1- اقامة الحجة على الناس,وهذه مهمة الولاية بالدعوة لإطاعة الله ورسوله وأولي الامر.
2- وجود الارادات الحرة للافراد والجماعات ..لان اسقاط مثل هذه الارادة يعني بالضرورة اسقاط ضرورة اقامة الحجة وانتفاء سبب ارسال الرسل ونزول الرسالات..
فالله سبحانه وتعالى عادل رحيم,ومن معاني قدرته ورحمته ان ترك للناس حرية الاختيار ليتحملوا مسؤولية خيارهم ورغبتهم وقراراتهم ( نحن اعلم بما يقولون وما انت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( فذكر انما انت مذكر,لست عليهم بمصيطر ).
لذلك ايضاً سارت الجمهورية الاسلامية في هذا الطريق لتعمق من اجراءاتها.اذا لاحظنا انه كلما تقدمت موقعية القيادة الاسلامية,تقدم الدور الاكبر للارادة الشعبية,ووضع في خدمة الامة المزيد من الممارسات والمؤسسات للتعبير عن رأيها وتنفيذ ارادتها.وكلما سارت الامة في تعزيز النهج الاسلامي ودخلت الحياة مفاهيم الاسلام الى الحقائق السياسية والاجتماعية,ارتفع شأن الولاية والحاكمية الالهية..
فالولاية ضمانة لتحرير الامة..وتحرر الامة وتحملها مسؤولياتها ضمانة لتعزيز دور الولاية..وان المسألة حسب تصورنا لاتتعلق بمتطرفين ومعتدلين..فاذا كان التطرف هو تعزيز نهج الولاية,فهذا امر مطلوب في موقعه,ولايمكن لحكم اسلامي أن يستقيم ويتقدم ما لم يعزز هذا المنهج وهذه الموقعية...واذا كان الانفتاح والاعتدال هو تقدم دور الامة في احتلال مسؤولياتها والتمتع بحقوقها المختلفة,فهذا ايضا امر مطلوب في موقعه يحميه الاسلام ويشجع عليه..فالامر في الحقيقة هو ليس تطرفاً أو اعتدالاً إلا اذا ماخرجت الامور عن نصاب معين..بل الامر عند احترام كل موقعية لنصابها ومسؤولياتها فانه سيتحقق التكامل والوحدة..فالحزم أو المسؤولية بدون حرية واحترام رأي الناس والامة استبداد..والحرية بدون مسؤولية فوضى وخراب..إذ يخطأ من يعتقد أن هناك حكماً يمكن أن يقوم على حرية مطلقة..ويتوهم من يعتقد ايضا أن هناك حكماً يمكن أن يدوم بالاستبداد والجبر..كذلك يتوهم من يعتقد,ان كل المواقع تستطيع ان تعمل بنفس الضوابط وبنفس النظرات,بل لابد أن تتوزع الواجبات واشكال الاداء والخطاب,كل في موقعه.
وهذا نهج ليس بجديد على الجمهورية الاسلامية,بل هو نهج ارساه الامام الخميني ( رض ) وبدأ باعطاء ثماره في تعزيز دور القيادة ,وكذلك في تعزيز دور الامة في اختيار ممثليها ولعب دورها كاملا عبر مؤسسات دستورية,فيها كل وسائل الرقابة واختيار من تراه مناسباً لاحتلال المواقع التشريعية والتنفيذية في البلاد.
هذه هي المسيرة الحقيقية.. وهي المسيرة التي إن استمرت في الحفاظ على قواعدها السليمة,فانها ستعزز من دور الامة وستفتح الابواب اوسع فاوسع للمزيد من الحرية والمسؤلسة, للامة من جهة وللقيادة من جهة اخرى.فاذا ما تكاملت حلقات الدائرة ومنعت الفتنة ان تأخذ طريقها لتستغل وجهات النظر المختلفة,فان عوامل القوة والارادة الحرة ستتمكن من توفير المستلزمات الاساسية لتطبيق العدل وتجاوز المشاكل والعقبات الواحدة تلو الاخرى.وذلك لايمثل تراجعاً عن مبدأ ثوري أو تحجز على شعارات بالية,بل هو تعزيز لمسيرة تسعى أن يأخذ كل من الولاية والامة دورهما المناسب.فالولاية والامة يرتبطان الواحدة مع الاخرى ولاانفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الالهية هي ليست السلطان الجائر أوالملك العضوض أو الثيوقراطية وادعاء الحق الالهي..ومادام تحرك الامة هو ليس تحرك شعب مسلوب الارادة تلعب يه الاهواء والمصالح ضد دينه ومصالحه وفطرته وحسه السليم.
اهمية العلاقة بين الديني والاجتماعي والسياسي
ان مفهومي الامة والشعب ( او الناس ) والولاية والدولة ( الآمرية أو السلطة ) هي مفاهيم في غاية الاهمية والخطورة..رغم أن المفهومين لا يتطابقان لا من حيث المنشأ ولا من حيث الموقعية ولا من حيث الدور,إلا ان وجود معنى من معاني الدولة على الولاية ...ووجود معنى من معاني الشعب في الامة..أو بالعكس فان استيلاء الدولة على الولاية أو عدم نجاح الناس أو الشعب في تأسيس امة,نقول ان هذا التدخل وعملية احتواء احد المفهومين للاخر طالما ضيع الخطوط الفاصلة بين الموقعين مما يشوش الرؤية ويضع العقبات التي تمنع منوضع كل امر في مكانه المناسب..وهو شرط لحسن سير الامور.
القرآن الكريم في اسلوب تعامله مع مفاهيم الامة والناس ( الشعب ) يزودنا بتصورات قد تساعدنا في بناء نظام فكري نستطيع من خلاله أن نميز بين مختلف الحالات فلا نصبح اسرى التعميمات والشعارات.
فالامة مفهوم ايجابي ( في حالة الامة الاسلامية) ويمثل عموماً حالة الوعي والمسؤولية أو الالتزام التي بلغها الشعب او مجموعة من الشعب أو حتى فرد واحد من الشعب بالقضية التي يؤمنون بها..كان ابراهيم امة..والرسل والانبياء هم نواة أومشاريع امة صالحة قائمة بامرها,تسير بشعوبها نحو الصلاح والخير.في حين أن الظالمين والمستبدين,هم مشروع امة ظالمة يسيرون بشعوبهم نحو الظلم والفساد.فتطور الشعب في الحالة الاسلامية من حالة الكم العددي والتشتت المفاهيمي والمؤسساتي الى مستوى الامة.هو تطور مستوى المسؤولية لدى الشعب لكي يتمكن فعلا من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ليس عبر الجهد الفردي المنعزل والمحدود,بل كنظام اجتماعي يمتلك كل المقومات,لان تجدد دورة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل طبيعي وعفوي يبرز من خلال تطور سلسلة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقيمية:
( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون ).
فالصفات الحميدة تعود كلها للامة ( القائمة ) ( المقتصدة ) ( الواحد) ( الوسيط ) عندما تتأسس وتتحمل مسؤولياتها وتؤمن بالله وتعمل في سبيله ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )..كذلك فان تطور الشعب في حالة الامة الظالمة,هو انتقال من حالة الكم العددي ليتحول نظام الظلم من مسألة فردية الى مسألة النظام الظالم الذي يتكرر من تلقاء نفسه لان الاسس التي شيد عليها والاهداف التي نظمت الجموع نفسها بها تنتج وتعيد انتاج الظلم والجور والاستغلال.
في الفكرة الاسلامية – كما نرى - هناك تلازم بين مفهوم الامة والولاية..( كذلك الامر لدى ولاة السوء وامة السوء ) كلما اتسعت الولاية اتسعت الامة ..وكلما اتسعت الامة اتسعت الولاية..هناك ايضا تلازم بين مقومات الامة والولاية,فكلاهما يقومان على الوعي والمسؤولية والتكليف واعتبار أن الايمان – وليس العنصر الوضعي ولا توازن القوى – هو العنصر الرئيس للسلطة الذي تأتمر به كل من الولاية والامة..المفهومان ضروريان الواحد للآخر فلا يمكن تصور قيام ولاية دون امة ولايمكن تصور قيام امة دون ولاية ,وذلك مهما كانت صغيرة أو كبيرة ,بغض النظر عن الحقائق الوضعية وتوازنات القوى الآنية...
وبالمقابل هناك تلازم بين مفهومي الشعب والدولة.اذ لايمكن قيام دولة دون شعب..أو قيام شعب دون دولة أو سلطة أو امرة..فكلاهما مفهومان وضعيان يمثلان موازين القوى في زمان ومكان معينين..فالدولة هي الاطار الذي يستطيع فيه الشعب أن يؤسس سلطته..والشعب هو مادة الدولة ووعائها..
إن شرعية الدولة,وضعياً ودينياً,لايمكن تحققها دون ارداة الشعب..نؤكد وضعياً ودينياً لان الشعب هو مصدر السلطات..ودينياً لان الدين الحق يرفض ان يقيم سلطة بالاكراه وبالضد من ارادة الناس.
اما شرعية الولاية دينياً,فهي مسألة ايمانية وليست بالضرورة وضعية..اما اذا ارادت الولاية ان تكتسب لنفسها شرعية وضعية,فلا مناص ايضا من ارادة الشعب التي تعبر عن نفسها بشكل مباشر أو غير مباشر.والامام علي ( ع ) – وهو ولي بدولة أو بدون دولة – رفض بيعة سرية تجري تحت جنح الظلام ,أو بيعة يتآمر فيها أو يأخذها عنوة. فيقول " لم تكن بيعتكم اياي فلتة" .." دعوني والتمسوا غيري " " فما راعني الا والناس كعرف الضبع الي ينثالون علي من كل جانب حتى لقد واطىء الحسنان,وشق عطفاي,مجتمعين حولي كربيضة الغنم,فلما نهضت بالامر نكثت طائفة ومرقت اخرى,وقسط آخرون,كأنهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الارض ولافساداً والعاقبة للمتقين ) بلى !والله لقد سمعوها ووعوها ,ولكنهم حليت الدنيا في اعينهم ,وراقهم زبرجها !اما والذي فلق الحبة,وبرأ النسمة,لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر,وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم,ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس اولها,ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز "
" فاقبلتم الي اقبال العوذ المطافيل على اولادها تقولون البيعة البيعة ".."وبسطتم يدي فكففتها ,ومددتموها فقبضتها,ثم تدارككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها,حتى انقطعت النعل,وسقط الرداء,ووطىء الضعيف,وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياي ان ابتهج بها الصغير,وهدج اليها الكبير,وتحامل نحوها نحوها العليل,وحسرت اليها الكعاب ".
هذه المتلازمات نجدها واضحة في اسم الجمهورية الاسلامية,وفي دستورها ,وفي ممارستها العملية,وفي انتخاب الشعب لرئيس الدولة ولاعضاء مجلس الشورى ..وكذلك لانتخاب الناس لاعضاء مجلس الخبراء الذي ينتخب بدوره ولي الامر والقيادة.
لكنه يمكن قيام ولاية بدون دولة,كما يمكن للولاية أن تخسر دولتها على الناس جزئياً أو كلياًوكما حصل مع الامام علي ( ع ) ,دون أن تسقط ولايته بأي شكل كان..كما يمكن قيام امة بدون شعب..قالامة قد تكون فرداً أو مجموعة صغيرة من المؤمنين ,لا يألفون ,معنى الشعب,يلتفون حول ولايتهم...
وان الحاكمية الالهية ( او الحكم الاسلامي ) تسعى بالدعوة والارشاد والمثل الصالح والجهاد لكي تتطابق هذه المفاهيم ويتحول الناس ( الشعب ) الى امة..ولكي تدخل على الدولة معاني الولاية.
هكذا ينظر الشيعة للامر..ونعتقد ان الامر لا يختلف ايضاً لدى السنة من هذه الزوايا على الاقل..فلم يتأسس لديهم موقع للامامة أو الولاية .بل جعلوا الخلافة شأناً دنيوياً اعطى منذ البداية توازنات الناس وضرورة البيعة الشكلية أو الحقيقية لها.ان المشروع الاسلامي المعاصر مازال في بدايته وهو يواجه تحديات كبرى..واذا لم يتحول الى مشروع لكل الناس فانه سيبقى مشروعاً محاضراً يلجأ الى التدبر دون قدرة حقيقية على طرح نفسه مشروعاً عالمياً للناس,كل الناس..
عندما نقول هذا الكلام إن الناس كل الناس يجب أن يتحولوا الى مسلمين ..لكننا نقول إن الدين سيبقى مجرد امور طقوسية بعيدة كل البعد عما امر به الشرع وعما تريده الحاكمية الالهية اذا لم يحتو الديني الاجتماعي والسياسي.هذا البعد اللازم للدعوة الدينية تجعل المسلمين في مسؤولية مباشرة مع حياة الناس كل الناس,وهو ما يتطلب منهك موقفاً عادلا متوازناً يستطيع ان يقدم الحلول ليس للمسلمين فقط,بل لغير المسلمين ايضا.
ان الاسلام العظيم من جهة,والتجربة التاريخية بايجابياتها وسلبياتها من جهة اخرى,تزدودنا بمرجعية عظيمة استطاع بها الاسلام أن يحتوي الاجتماعي والسياسي الى حدود بعيدة,وان يتعامل معها,بحيث تحول الدين في المسائل السياسية والاجتماعية والحضارية والفكرية الى مرجعية حقيقية لقطاعات واسعة من الناس,من مسلمين وغير مسلمين,ليس في البلاد الاسلامية فقط,بل اخذته بوعي أو بدون وعي الشعوب والحضارات الاخرى.
اننا مطالبون بفقه يواجه بكامل مسؤوليته الشرعية شؤون الحياة المعاصرة,لابفقه يكرر فتاوى الماضي مع اجراء بعض التعديلات عليها..فالحياة كما نواجهها اليوم هي ليست تطوراً هادئاً لمجريات الامس,أو زيادة كمية لمعطيات التاريخ..بل إن تحولات جذرية – وفي النوع – قد على المفاهيم الحياة والعلاقات بين الناس والامم .كما أن التحدي الذي نواجهه هو ليس عدواناً عسكرياً أو مادياً فقط..انه ,اولاً وقبل كل شيء,اخترق خطير وعميق في القيم والمفاهيم والثقلفات وهو ما يتطلب مستوى راقياً ومتقدماً في مايقابلها من مفاهيم ومؤسسات وقيم اسلامية.
ان الغرب يطرح علينا مسائل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والرفاه الاقتصادي والازدهار الحضاري والعديد من المسائل والقضايا..ويجب ان نعترف اننا مرتبكون في قبول أو رفض هذه المسائل ..فكم من مسألة رفضناها ثم قبلناها لاحقاً..وكم من مسألة قبلناها ثم تبين ضررها وفسادها بعد ذلك..ان هذا الارتباك يحصل لان الغرب يطرح علينا منظومة كاملة من الافكار والمفاهيم والممارسات...ونحن نواجهه عشوائيا دون ان نمتلك منظومة كاملة يرتبط فيها الديني بالسياسي والاجتماعي بشكل يجعل ديننا يتفوق على "دينهم" ,واجتماعيا وسياستنا تتفوق على اجتماعهم وسياستهم..لهذه سيخترقون ديننا وسياستنا واجتماعنا لان جزءاً عظيماً من علومنا الدينية ينظر الى الماضي فقط ولا ينظر الى الحاضر والمستقبل ايضاً..لان جزءاً عظيماً من افعالنا هي ردود افعال مرجعيتها الخوف أو الجهل,قبل ان تكون مرجعيتها الاسلام..ولان جزءاً عظيماً من مبادراتنا ودعواتنا وممارساتنا,لم تدخل الدين بجميع معانيه الى الحياة السياسية والاجتماعية وكما يأمر بذلك الدين,بل كما تأمر احيانا عاداتنا وموروثاتنا التي نقول إن جزءاً كبيراً منها قد صنعته عصور الظلم والجور والاستبداد .هذه هي مهمة تقع بالدرجة الاولى على ولاة امرنا ومراجعنا وعلمائنا..وكذلك على مفكرينا وحوزاتنا وجامعاتنا..عندما نقوم كما يجب بهذه العمليةوفان النهضة الاسلامية المعاصرة ستكون قادرة فعلاً على مواجهة التحدي وعلى التخلص من الفقر والجهل والاستبداد والظلم والتخلف لتنتقل من مواقع الحصار والتبرير والتلقي الى مواقع المبادرة والعطاء والخلاص.
فالمشروع الاسلامي مطالب,اذن,بتقديم حلول عالمية لا للمسلمين فقط,بل للعالمين اجمع..هذه النظرة لاتتعلق بتنظيم علاقاتنا بخارجنا غير الاسلامي فحسب,بل هي اساسية ايضا لتنظيم داخلنا الاسلامي ايضا,والانفتاح على شتى التيارات لتحريك الايجابي منها والوقوف ضد الفاسد لديها.وسلاحنا في ذلك الدعوة إذ كما يقول الامام علي (ع ): " لايكن لك الى الناس سفير إلا لسانك ",ذلك إلا لمن يعتدي علينا.إذ بدون فهم الامم والحضارات الاخرى,وبدون فهم المظلوميات لدينا ولدى غيرنا,وبدون فهم المشاكل التي نواجهها وتواجهها البشرية كلها,وبدون الاتحاد مع تيارات كبيرة لمواجهة بؤر الظلم والفساد والاستكبار,وبدون مواجهة المشروع ( الديني ) السياسي الاجتماعي لنظام الاستكبار ضدنا بمشروع ديني سياسي واجتماعي متكامل الحلقات,متقدم عليه من حيث اقرار حقوق الناس المادية والمعنوية,فان المشروع الاسلامي هو الذي سيحاصر في عقر داره..وسيدفع الى الزوايا والسراديب ليصبح الاسلام دين الموت وليس دين الحياة..دين الماضي وليس دين الحاضر والمستقبل.
المصدر / مجلة التوحيد.
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة