مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 مطارحات العلاقة
ثلاثة نماذج للتعاطي مع الآخر العربي
محمد محفوظ


إزاء الواقع المرير الذي عاشه العالم العربي والاسلامي مع الغرب الاستعماري بدأت بالبروز والتبلور ثلاثة مواقف تجاه الغرب:
1 _ موقف القبول المطلق بالغرب.. وينطلق هذا الموقف من قاعدة ثابتة لدى المنادين بهذا القبول، فإذا أراد العالم العربي والاسلامي، أن يتقدم ويلحق بالركب الحضاري فلابدّ أن يقبل بكل شيء يفد إليه من الغرب، ويرفض كل موروثه الثقافي والاجتماعي والحضاري. وعن هذا الطريق يتمكن المشرق اللحاق بالحضارة الغربية. ويقول أحد دعاة هذا الموقف وهو الدكتور زكي نجيب محمود: الجواب الواحد الواضح لانهاء التخلف والتأخر، هو أن نندمج في الغرب اندماجاً في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا. الجواب الواحد الواضح هو أن تكون مصر قطعة من أوروبا.. وفي نظر هذا التيار فان العمل والطاقات ينبغي أن تصب في اتجاهين: محاولة فك الارتباط الحضاري للمجتمعات العربية والاسلامية عن تاريخها وماضيها الاسلامي، والعمل على إدخال النظم والقيم والعادات والتقاليد الغربية في البنيان الاجتماعي والمعرفي والحضاري للعالم العربي والاسلامي.
2 ـ موقف الرفض المطلق للغرب.. باعتباره العدو الحضاري للأمة الاسلامية، وأنه الداء المسبب لكل مشاكلنا وأزماتنا. لذلك فبداية الحل الصحيح هو غلق الباب على هذه الحضارة ورفضها بكاملها، وأن النظريات الغربية التي تصدر إلينا لاتختزل نفسها على المستوى الاقتصادي أو السياسي فقط، وإنما هي تطرح نفسها كنظرية إقتصادية، ثقافية، اجتماعية، سياسية، حضارية بشكل عام، وعليه فاللحاق بالغرب اقتصادياً يعني الذوبان في المنظومة الغربية ثقافياً وسياسياً وحضارياً. والنخبة الفكرية والاقتصادية المتغربة، صنعت وهيّئت لكي تكون نخبة عقيمة لاتستطيع الاستغناء عن العالم الغربي، فهي مصممة بحيث تشبه الغرب في كل شيء، إلا في قيم الابداع والاستقلال والقيم الانسانية الجوهرية التي اعتمد الغرب عليها في نهضته الصناعية والمدنية.
كما أن جميع الايدلوجيات التي سادت في العالم العربي والاسلامي، كانت ملخصات سيئة وترجمات مشوهة لمضمون التخلف الحضاري في الأمة. حيث كانت تتصور واقعاً غير الواقع الاسلامي، فعمل دعاتها ونشاطهم، كان غالباً في الفراغ لأنهم نقلوا صورة المشاكل في الغرب إلى العالم الاسلامي، وعالجوها بالحلول المطبقة في الغرب، وهذه عملية فوضوية وغير علمية وفوقية، تمارس التوجيه وتمسك بأدوات الوعي والمعرفة، التي أوجدها المستعمر وحاول من خلالها التعرف على مشاكلنا وصعوباتنا، ومن ثم اقتراح الحلول لنا.
3 ـ التوفيق الواعي بين الثقافة الاسلامية ومعطيات ومكاسب الحضارة الحديثة.. وينطلق هذا الموقف اعتماداً على مجموعة من الحقائق، منها:
ـ إنّ هناك مجموعة من الأمور والقضايا ذات المطابع العالمي، أو ليست لها طابعاً ثقافياً حاداً، وقد اشتركت البشرية جمعاء عبر الأجياء في صياغتها وإيجادها عبر التراكم الحضاري. هذه القضايا نأخذ بها ونستفيد منها في حركة الحياة. فالمقصود بالتوفيق ليس التوفيق بين المبادىء الاسلامية والغربية، لأنها مسألة صعبة بل مستحيلة، لتناقض منطلقات الحضارتين حيث أن للأخذ الثقافي إمتدادات إجتماعية ونفسية خطيرة علىجسم الاُمة الإسلامية، فنحن نستفيد من الغرب القيم الحيّة كالفاعلية والابداع والعمل والسعي والعلوم.
ـ إنّ المجتمعات الاسلامية بدأت تاريخياً الانفتاح على الغرب وهي تعيش حالة من الانفصام بين المعرفة والمنهج السلوكي الذي تتبعه وتمارسه. لذلك لم تكن هذه المجتمعات، تمتلك القدرة والامكانية للوقوف على أرض صلبة من أجل التقويم الدقيق للثقافات الوافدة. مما جعل هذا الانفتاح العشوائي يخلق فرضى شاملة في جسم الاُمة الاسلامية وهذه أهم آثاره أزمة هوية ـ فوضى في المصطلحات والبنية النظرية ـ هجرة الأدمغة ـ التغير المفاجىء في البنية الاجتماعية والاقتصادية والبنى الثقافية.
لذلك فإن حجر الزاوية في عملية التوفيق أو الانفتاح الواعي، هو الحفاظ على ذاتنا الحضارية وإنتماءنا المتميز، بما تتضمن هذه الذات والانتماء من تاريخ وقيم وانطلاقاً من هذه الذاتية نتعامل مع الآخر.
والأصالة الاسلامية من ميزاتها الأساسية الانفتاح على الواقع في سبيل تفعيله وتحريكه، فهي تلتصق التصاقاً كبيراً بالمجتمع (العصر) من أجل توجيهه حسب أوضاعه الثقافية والتاريخية. ومن الخطأ الافتراض أنه من أجل العصرنة لابدّ من الاغتراب ومقايضة تاريخنا وثقافتنا بالاندماج في الغرب. ويكفينا دليلاً على ذلك أنه لم يرو لنا التاريخ أن أمة من الأمم استطاعت أن تتقدم وتتطور أو تدخل في عالم المعاصرة، بدون الاعتماد علي قيمها وإرثها التاريخي، حتى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تحقق كل ذلك إلا بالأصالة الأوروبية التي حملها معهم المهاجرون إليها من أوروبا. فطريق العصرنة ليس محاكاة الغرب فقط، إذ أن محاكاته تؤدي إلى الاستلاب الحضاري الذي يحولنا إلى أمة ميتة، جامدة، مقلدة. كما أنّ التحديث القسري يؤدي إلى الاستبداد والتسلط السياسي، لأن عملية التحديث القسرية تحاول أن تبني منظومة قيم جديدة وتواصل ثقافي متغرب. وهذا التغيير لايتم إلا بتحطيم العقيدة الموجودة، وتفكيك منظومة القيم السابقة، واللغة كأداة للتواصل الثقافي والاجتماعي وجميع أشكال التواصل بين أبناء المجتمع، والعمل على تغيير المفاهيم وأنساق التفكير، ومعايير التفاضل الثقافي والاجتماعي. وهذه العملية لاتنجب إلا الاستبداد والانسحاق وفقدان التوازن والاستلاب القيمي والاجتماعي.
ـ أن يكون إنفتاحاً على الآخر وليس تقليداً له. والمقصود بالانفتاح الواعي، هو أن ننطلق من قيمنا ومبادئنا وأصالتنا، للأخذ بالمعرفة والتطورات العلمية التي تحدث في الغرب، كما حصل للغرب نفسه حيث أنه انطلق من مفاهيمه وسياقه الثقافي والمعرفي للأخذ بجميع التطورات التي تحدث في العالم، ويشير إلي هذه المسألة (جبران) عندما يقول: كان الغربيون في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه محولين الصالح منه إلي كيانهم الغربي. أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لايتحول إلى كيانهم بل يحولهم إلى أشبه غربيين وهي حالة تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطوراً كطفل بدون أضراس.
وقضية الاستقلال عن الغرب أو التبعية له تبدأ بالفكر والثقافة قبل الاقتصاد والسياسة، لأنّ الفكر المستقل سيصنع اقتصاداً مستقلاً يعتمد علي واقعه الموضوعي وخصوصياته الذاتية، كما أنّ الفكر التابع أو الثقافة المهزومة مهما أوتيت من إمكانات مادية هائلة، لن تخرج عن إطار التبعية الاقتصادية، ونقل النظريات الجاهزة، وتطبيقها في تربة ليست تربتها، لذلك فتشكيل سياسة اقتصادية سليمة يبدأ بالفكر والثقافة قبل السياسة والاقتصاد.
من هنا فإننا ندعو إلى الانفتاح على الغرب، والاستفادة من معارفه وعلومه، لا التقليد له والأخذ بنمط الحياة لدى الغربيين. والفرق الجوهري بين الانفتاح والتقليد أن الأول ينطلق من أرضية ثابتة واضحة تجاه قيمه ومبادئه، وينظر إلى الآخر الحضاري بمنظار القيم والمبادىء التي يعتقد بها، عكس التقليد الذي يعاني الانتقال من البيئة ـ بالمعني العام ـ المحلية، والانطلاق من ذات التربة المغايرة، مما يفقد المرء هويته الحضارية، والأنكي من ذلك أنه لن يتمكن أن يكون غربياً (بالمعنى الحضاري) لعنصرية الغرب ومنعه أسرار المعرفة والعلوم عن جميع الشعوب الأخرى. والجدير بالذكر أن بعض الأبنية النظرية الغربية، التي تحاول بعض المدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية إستيرادها، هي مصممة من أجل إستمرارنا في التبعية، وما شعار اللحاق بالغرب عن طريق هذا المركب النظري إلا سراب، وكما قيل أنه سيكون كالحمار الذي يجري وراء الجزرة طول عمره دون أن يلحق بها، علي حد تعبير الاستاذ عادل حسين.
وأخيراً إنّ الأصالة مطلب حضاري، باعتبارها الإطار المرجعي والروحي والأخلاقي والمعرفي للعالم العربي والاسلامي، كما أنها لاتعني تقليد الماضي بل هي تعبير عن الحاجة إلي التعريف بالذات، وتحديد العلاقة مع الآخر الحضاري، إنها مقاومة ذاتية للهيمنة والتحلل والسلبية، وهي عامل توازن يمنع المجتمع من التحول إلى ورقة في مهب الريح. فالأصالة نمط ثابت للتفاعل المستمر مع الواقع والعصر. لأنّ التقدم والرقي، لايأتي من فراغ وإنما يعتمد علي قيم وتاريخ، وينطلق بهذه اليم والنماذج من أجل التقدم والتطور كما فعل الراهب (روجر بيكون) الذي كان له الفضل في الثورة العلمية والصناعية في أوروبا. فالأصالة ليست رصيداً تاريخياً فحسب، وإنما هي الإرادة والقدرة الذاتية على الإبداع.
--------------------------------
المصدر : الاسلام، الغرب، وحوار المستقبل
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة