مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 مطارحات العلاقة
حوار الحضارات... لماذا؟
د.يوسف حسن


العالم يتغير بعمق، وبتسارع أكبر، وشهد تحولات كمية غير مسبوقة. مما يدعونا لبذل جهد غير عادي لفهم عملية التغيير الجارية الآن والتعرف على اتجاه تطور المجتمعات الإنسانية وإدراك التحولات في نظمها السياسية وقيمها الروحية وكذلك فهم الثورة العميقة في مجالات المعرفة والتكنولوجيا.
إن هذا الجهد والفهم يتطلب متابعة دقيقة وناقدة لعالم يتسارع فيه التغيير وتتداخل فيه الظواهر الثقافية بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتشابك فيه العلاقات الدولية وتصبح الحاجة ماسة لخلق تفاهم وفهم مشترك واحترام متبادل بين ثقافات هذا العالم.
ومما لا شك فيه فأن تبادل وجهات النظر بين مثقفين وباحثين ودارسين عرب وغير عرب حول قضايا ثقافية وسياسية واجتماعية... وغير ذلك، يوفر قاعدة أساسية لفهم الحضارات وإيجاد التفاعل بينها، وهو تفاعل ضروري لعملية تشكيل مستقبل العالم، والحيلولة دون حدوث صدامات في العلاقات الثقافية والدولية.
إذن نحن نطرح حواراً بين الحضارات رداً على أطروحة صدام الحضارات أو صراع الحضارات. والحوار تقليد حضاري وفعل ثقافي رفيع، وقد مورس الحوار بين الحضارات في كل العصور، في أزمنة السلم وأزمنة الحرب، وبين المنتصرين والمهزومين. وكل حضارة لديها (القابلية للحوار) والرغبة في تنمية قيمها وخصوصياتها الثقافية في آن واحد. ولعل حضارتنا العربية والإسلامية هي (الأعلى) صوتاً وفعلاً في رسالتها (الحوارية) خاصة وهي تولي منزلة عليا للعقل والعلم والحرية، وتدعو البشرية للتعارف والتفاهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهذه هي رسالة الحضارة.
لكن لماذا تزداد الحاجة الآن لحوار بين الحضارات؟
والجواب على ذلك لا تخطئه العين ولا يغيب عن العقل فالبشرية تعاني أزمات سياسية وانفجارات اجتماعية وهجرات سكانية وفجوات عميقة اقتصادية وتناقصاً في الموارد الطبيعية، ودماراً متواصلاً للبيئة وارتفاعاً في وتيرة العنف والغلو. كما يشهد العالم تحولات كيفية غير مسبوقة خاصة في مجالات الثورة التكنولوجية الثالثة، والتي يصعب دون إعمال العقل والحوار، فهم تأثيرها في القيم والعلاقات والأفكار والثقافات.
كما تبرز صعوبة إدراك حقيقة القواعد والعلاقات والمشاعر والبناء الاجتماعي والحدود التي تقوم عليها الحضارات، ومدى تغير دلالاتها عبر الزمان والمكان. ومدى تأثر اتجاهاتها بالضغوط الخارجية والأزمات الداخلية... وغير ذلك. كما يخشى أن يؤدي استمرار وجود الصور (النمطية) لحضارة عند أخرى إلى تغذية ضروب الكراهية الجماعية خاص في المجتمعات التي تنتشر فيها الجهالة والتعصب والخرافات، فيتحول الاختلاف إلى نزاع، وإذا نشب النزاع، فقد يتحول إلى عنف إذا لم يكن هناك حوار و (ثقافة حوار)، والتي تعلي من قيمة التسامح، وتحترم مبدأ كرامة الإنسان وحريته في الاختيار، وتقبل مبدأ التنوع والتعددية الحضارية بدلاً من فرض (النموذج) والهيمنة.
إذن، الحوار الذي نريده بين الحضارات، حوار يحول دون استمرار الحضارات في النظر إلى بعضها البعض من خلال مرآة مكسورة.
حوار يقوم على الإيمان بوحدة الأصل البشري. وعلى مبدأ التعارف والتسامح الثقافي في مواجهة العنصرية ونفي الآخرين.
حوار يؤكد المشترك الإيجابي بين الحضارات، ويقر بأنه لا وجود (لحضارات زائفة) ويزيل ويمحو (ذهنية المحاصر) في عقل بعض الحضارات.
والحوار لابد أن ينطلق من استعداد كل حضارة لفهم الأخرى، وتجنب إصدار أحكام مسبقة عليها، والاتفاق على إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح، والرغبة المشتركة في بلورة قيم إنسانية، لإحداث التفاعل الحضاري، وقد تساعد في ذلك معطيات المجتمع العالمي الجديد القائم على إنتاج المعلومات وتداولها بشكل سريع وميسور وواسع يتجاوز الحدود الجغرافية للحضارات وللثقافات.
والحوار يعني أيضاً وقف عمليات الاستيعاب والاستلحاق بين الحضارات، ويهدف إلى (عقلنة) سلوك الدول داخل هذه الحضارات، ومنع أو عرقلة استخدام الدول (للقوة) لأغراض الهيمنة.
وفي الوقت نفسه، فإن الحوار بين الحضارات يسهم في تثبيت السمة الرئيسية للثقافات الإنسانية وهي استجابتها للتطور والاغتناء بالتفاعل فيما بينها، كما يسهم الحوار في (عقلنة) النزاعات التي قد تنشأ أثناء تثبيت الهويات الثقافية لهذه الحضارات، أو التي تتولد في ظروف الأزمات الاقتصادية، نتيجة حدوث احتكاكات بين أبناء الحضارات المختلفة خلال موجات الهجرات السكانية عبر حدود دوائر هذه الحضارات، أو تلك النزاعات التي قد تسببها هجرات غير شرعية، وتغذيها فروق ومشكلات سياسية وعقيدية وتاريخية.
إن من فوائد الحوار وغاياته إبطال المناخات المفعمة بالمخاوف ومشاعر العنصرية والكراهية، وتوفير المناخ الملائم لتبادل الوافد النافع من الثقافة والعلم والخبرة.
إن الحوار بين الحضارة يعني أن تتبادل العلوم والمخترعات، وليس مجرد الثقافة والإعلام والآداب والفنون، وإلا كان التبادل تبادلاً محدوداً، ويفتح المجال للهيمنة الثقافية واحتلال العقل ومسخ الثقافات الأخرى.
إن الحوار لا يعني نسيان أو تجاهل التميز بين الحضارات، لكن العزلة عن التأثيرات الحضارية الأخرى أمر صعب مثله مثل التبعية أو الذوبان.
وهكذا فإن الدعوة للحوار، هي دعوة للتسامح والتعايش مع الآخرين، وإنكار لنزعات التفوق والسيطرة، وهي نظرة لقضايا المستقبل، وتعبير عن إرادة الحضارات المعاصرة لمعالجة هذه القضايا، وعن قناعتها بضرورة التعاون للنجاح في ذلك.
والسؤال: كيف نقدم حضارتنا العربية الإسلامية إلى الحضارات الأخرى؟ كيف نقدمها من غير رتوش، بسلبياتها وإيجابياتها، بأزماتها وتراجعاتها وإبداعاتها وقيمها؟ كيف نقدم رؤيتها لقضايا المستقبل: من حقوق إنسانن وسلام وبيئة نظيفة وديمقراطية وشورى وتنمية وأخلاقيات في التعامل والاقتصاد... إلخ؟
في البدء لابد من مكاشفة الذات، ومعرفة جوانب قوتها ومكامن ضعفها، واكتشاف قدراتها الحقيقية وإمكاناتها الروحية والفكرية والبشرية والمادية. وإدراك صورة هذه الذات عند الحضارات الأخرى، ولا بد بعد ذلك من تقديم فهم عقلي لعالمنا المعاصر، كما يتطلب التقديم الإجابة الواضحة عما يسمى (بالتهديد الإسلامي) للحضارة الغربية المسيحية. وتوضيح الرؤى لما يطلق عليه (الغزو الثقافي والقيمي) الغربي لمجتمعات الحضارة الإسلامية، وما هي حدود هذه الأخطار التي تدق لاستثارتها الطبول؟ وكيف يمكن إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح الثقافي؟
إن الحضارة العربية الإسلامية غير عاجزة عن التكيف مع العصر، وتملك خبرات وقيماً رفيعة من التسامح والقدرة على التفاعل والتعايش مع الآخرين. لقد منعت الحضارة العربية الإسلامية ـ بالقول والفعل ـ إهدار كرامة الإنسان والسيطرة عليه. وأكدت ـ مثلما أكدت حضارات أخرى ـ أن كرامة الإنسان أسبق من كان انتماء وهوية حضارية، وحصانة أولية للإنسان ثابتة له بوصفه إنساناً كرمه خالقه وجعله خليفة له في أرضه. إن الاختلاف والخلاف بين الحضارات لا ينبغي لهما أن يهدرا حقوق الشعوب، إن في التعامل أو في الوجود.
إن الحوار هنا لمنع (الطائفية الحضارية).. والمسؤولية تقع في هذا المجال على عاتق القوى الثقافية الفاعلة داخل مجتمعات هذه الحضارات، لأن هذه القوى هي الأكثر تأهيلاً وكفاءة في خلق الحوار والمحافظة على تواصله وإحداث التفاعل الإيجابي بين عناصره والبحث عما أسماه المؤرخ أرنولد توينبي (بالصفاء الروحي الإيجابي) ومعالجة الخلل في القيم والضمائر والعلاقات، ونبذ نزعات التفوق والسيطرة والهيمنة ونفي الآخر.
حوار الحضارات يمكن العالم من الاحتكام إلى العقل وإلى منطقه في كل أمور الحياة والثقافة والكون، ويدعو الإنسان لحب المعرفة وبذل الجهد من أجل العلم والعمل وعمران الكون وإحراز التقدم، فيصبح للحياة معنى حقيقي، حيث يمكن عندئذ صياغة القرن الواحد والعشرين صياغة إنقاذية، وبقيم إنسانية مشتركة.
-----------------------------
المصدر: الاسلام والغرب

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة