مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 رياح الاسلام
بواكير الاستشراق والنقل المعرفي الى الغرب
محمد ماهر حماده


الاستشراق, لغوياً, يعني الاتجاه الى الشرق0 والاستشراق لفظ اصطلاحي أطلق على عملية نقل التراث الشرقي إلى الغرب وعلى عملية درس لغاته وتحقيق نصوصه والحفاظ على تراثه , وبكلمة أوضح هو عملية أوجدت من أجل فهم أفضل للشرق بكل ما يحويه من أفكار ومثل وعادات وعلوم , وبالتالي تساعد هذه العملية في حكم الشرق وأستغلاله وإخضاعه للغرب0
وهناك تعريفات كثيرة للاستشراق ودواعي كثيرة أيضاً لها0 وقد مر الأستشراق في مراحل متعددة وتطور مع تطور معارف الغرب وقوته وزيادة سيطرته على الشرق0 وهناك من يقصر الاستشراق على فترة معينة هي العصور الحديثة, وهناك من يجعلها موغلة في القدم ومستمرة حتى الآن0
ونحنلا يهمنا هنا الاستشراق إلا بمقدار ما قام به من نقل للكتب العربية إلى الغرب وترجمتها والاستفادة منها , ومن ثم نشرها وتحقيقها وتأسيس المؤسسات التعليمية والتربوية التي تساعد في هذه الغاية0
هذا وأن الكنيسة الكاثوليكية كانت من أول المهتمين بالاستشراق وامره, فقد كانت الغالبية العظمى من اوائل النقلة للعلم العربي الى اللاتينية من رجال الدين , إن لم يكن كلهم, ثم بعد ذلك أخذت الكنيسة الكاثوليكية على عاتقها قضية تنظيم الأستشراق وإيجاد المؤسسات اللازمة له0 يقول لويس شيخو " والكنيسة الكاثوليكية كانت أعظم ساعية في إدراك هذه الغاية (غاية نقل العلوم الشرقية الى الغرب ) ويمكننا أعتبار تاريخ سنة 1311م البدء الرسمي لسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الاستشراق وحصرهاالاهتمام به في نفسها, ففي تلك السنة قرر مجمع فينا الكنسي برئاسة البابا اقليمنس الخامس ( 1305 - 1314 م ) أن يؤسس دروساً عربية وعبرية وسريانية في رومة على نفقة الحبر الأعظم وفي باريس على نفقة ملك فرنسا, أما في أكسفورد وبولون وسلمنكة فعلى نفقة الرهبان "
هذا وتقسم عهود الاستشراق الى قسمين متميزين القسم الأول ويمتد حتى مطالع عهود النهضة (القرن السادس عشر) والقسم الثاني الذي يبدأ من تلك الفترة ولا يزال مستمراً حتى الوقت الحاضر0
ففي بداية العهد الاول قام بالعمل علماء وبحاثة اوربيون ويهود ومسلمون بقصد نقل روائع العلم العربي الى اللاتينية0 ذلك إن القوم أنذاك كانوا عارفين معرفة تامة بقصورهم وعجزهم وتفوق المسلمين عليهم في هذه النواحي العقلية, ولاسيما العلمية منها والعملية كالطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء وما ماثل , فأرادوا الأستفادة من هذه المعارف بنقلها من العربية إلى اللاتينية , ثمبعد فترة أتت الكنيسة الكاثوليكية وألقت بثقلها في الموضوع ووجهت العمل إلى مناح أخرى , الى جانب الهدف العلمي , أغلبها تبشيري من أجل الدعاية للمذهب الكاثوليكي وهداية المسلمين واليهود إلى المسيحية, ومن أجل الاتصال بنصارى المشرق لإقامة الجسور بين الطرفين ولهداية هؤلاء المسيحيين الشرقيين إلى الكاثوليكية 0
ومع بداية النهضة فقد الشرق زمام المبادرة وأصبح ممزقاً غارقاً في الجهل ولم يعد عنده ما يقدمه للآخرين وفي نفس الوقت بدأت العلوم والآداب تتقدم وتترقى وتزدهر في أوربا بعد أن نقل أليها أفضل ما في الكتب العربية من معارف, وبدأت أوربا تتطلع الى الشرق لاستثمار خيراته والسيطرةعليه , لذلك نجد تحولاً جذرياً في أتجاه الاستشراق , فقد بدأ يخرج عن سيطرة الكنيسة ويخضع لسلطان الحكومات وبدأت الدول الكبرى تسخره لأهدافها في السيطرةوالاستعمار والتنصير وما ماثل ووزادت هذه الدوافع شدة ووضوحاً مع مضي الزمن ,وهذا هو بداية الاستشراق الحديث الذي تحالف مع الاستعمار ومع الكنيسة من أجل أخضاع الشرق كلياً لسيطرة الغرب0
هذا وسيكون لنا كلام أوفى عن الاستشراق الحديث فيمايلي من صفحات 0
ولقد وردت كلمة مستشرق أول ماوردت سنة 1683م إذ انها أطلقت على أحد رجال الكنيسة الشرقية أو اليونانية, ذلك إن هذا الاصطلاح حديث0 وفي سنة 1691م وصف أنتوني وود صمويل كلارك أنه " أستشراقي نابه " يعني بذلك أنه يعرف بعض لغات الشرق0 وتحدث لورد بايرون في تعليقاته على child Harold`s pilgrimage عن المستر ثورنتون والماعاته الكثيرة الدالة على أستشراق عميق0 أما قاموس أكسفورد الجديد فيحدد المستشرق orientalist بأنه " من تبحر في لغات الشرق وأدابه "0
إن بدايات مدرسة الطب في العصور الوسطى في سالرنو كانت متأثرة بمؤثرات بيزنطية , ولكنهاما لبثت أن تأثرت خلال القرن العاشر فمابعده بالطب العربي الذي نقلهااليها يهودي من إيطاليا الجنوبية اسمه شاباثيا بن أبراهام بن جول0 shabbethai ibn Abraham ibn joel. أخذ المسلمون شاباثيا أسيراً سنة 925م ونقلوه الى بالمرو حيث تعلم العربية ودرس جميع علوم الإغريق والعرب والبابليين والهنود0 ولما كان شمال أيطاليا أنذاك تحت السيطرة البيزنطية , وكان المسلمون يحتلون صقلية فقد ألتقى في ذلك القرن في مدارس سالرنو وأوترانتو ومونت كاسينو العلم العربي مع العلم اليوناني0
هذا وكان كثير من الرهبان يوفدون إلى أسبانيا للتعلم هناك, ويبدو أنهم لك يكونوا يعودون خاويي الوفاض أو بمجرد الأفكار الجديدة التي كانت تملأ رؤوسهم وتسيطر على أفكارهم, وإنما كانوا يعودون ومعهم مخطوطات علمية أما بلغتها العربية , أو بعد ترجمتهاالى اللاتينية ولعل قضية جونمن رهبان دير غورتز في ألمانيا تقدم دليلاً وشاهداً على ما نقول 0 فقد أحضر هذا الراهب سنة 950م الى ديره في المانيا من كلابريا قسماً من كتاب أرسطو categorie وكتاب الأيساغوجي لفرفوريوس وإن هذا الراهب كان أول اداة انتقل عن طريقها العلم العربي الى منطقة شمالي الألب , وأقد من نشر هذا العلم في اوربا 0 ففي سنة 953م أرسا الأمبراطور الألماني أوتو الكبير هذا الراهب سفيراً الى بلاط الخليفة الأندلسي العظيم عبد الرحم الناصر0 ويرى بعضهم أن هذا الاختيار كان بسبب معرفة هذا الراهب بشؤون البلاد التي يحتلها العرب إذ أنه قام سابقاً بزيارة مماثلة إلى جنوبي إيطاليا 0 ولقد أقام هذا الراهب, كسفير لدى الخليفة مدة ثلاثة سنوات , وقد عاشر أثناء أقامته في قرطبة رجلين من المتضلعينباللغتين العربية واللاتينية أحدهما اليهودي حسداي والثاني الأسقف ريساماندوس والأول كان دليله والثاني مترجم للمفاوضات مع الحكومة الاسلامية 0 وغالب الظن أنه تعلم العربية هناك 0 وقد تأثر جون غورتز أثناء أقامته بقرطبة أيضاً بالفيلسوف اليهودي ابن شبروط 0 وعندما رجع إلى المانيا أحضر معه حمل فرسكتباً عربية 0 ونحن, وإن كنا لا نعل معلى وجه اليقين محتويات هذه الكتب ,إلا أن هناك دلائل تشير الا ان بعض هذه الكتب كان ولابد كتباً طبية وعلمية وفلكية ورياضيات , لأننا نعلمأن جون هذا كان مهتماًُ بالفلك والرياضيات , ولأنه وجد في القرن التالي ازدياداً ملحوظاً بالأهتمام بالعلم وبشكل خاص بالرياضيات , وذل كفي مدارس منطقة الرين وبلاد الفلاندرز 0 كذلك هناك دلائل تشير ألى بعض الإزدهار العلمي والاهتمام بالعلم العربي في المدارس الفلمنكية 0 ذلك أنه عندما احتل الملك الدانمركي كنوت انكلترا (1000-1035م) أطرح الأساقفة الانكلوساكون الوطنيين وأحل محلهم أساقفة من بلاد الفلمنك (الاراضي الواطئة ) عند خمسة منهم بعض المعرفةبالعلم العربي ,وأهم هؤلاء الخمسة روبرت من لوزينيا Robert de losinga أسقف Hereford.
------------------------------------
المصدر: محمد ماهر حماده

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة