مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 ظافر القاسمي
المواجهة بين الاسلام والنصرانية ..أسبابه ونتائجه على الحضارة الإنسانية 


منذ أن وقع أول اتصال بين الرسول الأعظم (ص) غداة الوحي إليه، وبين ورقة بن نوفل، ابن عم زوجته الأولى خديجة الكبرى، والذي قيل إنه كان على دين النصرانية، منذ ذلك الحين، والعلاقات بين الإسلام والنصرانية قائمة داخل الجزيرة وخارجها. ولعل دارسي السيرة النبوية المطهرة يذكرون أن ابن هشام قال عن نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، واجتمعوا بالرسول (ص)، إن هؤلاء النصارى قد «ناظروا» الرسول. وهذه المناظرة، وإن كنا لا ندري تفاصيلها، ولكن من حقنا أن نفترض أنها قد بنيت على الحرية الدينية، حرية العقيدة، ولا أدل على ذلك من أن الرسول (ص) قد مكنهم من إقامة صلاتهم في مسجده! وهذا قد يبدو في منتهى الغرابة، ولكن الإسلام جاء ليؤكد السنن الإلهية في الحرية والتسامح جميعاً.
وهذا الموضوع (الإسلام والنصرانية) ليس جديداً، ولا أحب أن أخوض فيه على النحو التقليدي، ولكني أرجو أن لا يكون علي جناح في أن أدلي بدلوي في الدلاء، لا سيما وأن التراث الإسلامي قد زخر بمناقشة أهل الكتاب، وفقاً للعقيدة الإسلامية، فلن تجد كتاباً من كتب التفسير، ولا شرحاً من شروح السنة، ولا مؤلفاً في الفقه أو الأصول أو التوحيد أو العقائد، أو الملل والنحل، أو حتى بعض كتب التاريخ، وبعض كتب الأدب، إلا وفيها مناظرة أو مناقشة، طالت أو قصرت، لأهل الكتاب، ولا سيما للنصارى، وبخاصة: النصارى العرب عند المتأخرين.
وأنا من الذين يعتقدون أن كتاب الجاحظ: «الرد على النصارى» ليس أول كتاب ألف في العربية في هذا الموضوع، كذلك لن يكون كتاب الأستاذ الإمام محمد عبده: «الإسلام والنصرانية، بين العلم والمدنية»، آخر كتاب ألف في هذا الموضوع، كما قال أحد الباحثين الجدد، بل ظهرت بعده كتب عديدة، مختلفة الحجم والقيمة.
ومن الوفاء أن نشير إلى أن الفقيد نجيب الأرمنازي قد خص هذا البحث بفصل طويل في كتابه القيم الممتع: «الشرع الدولي في الإسلام» سماه: «النزاع بين النصرانية والإسلام».
والذي يظهر من دراسة السيرة النبوية دراسة تحليلية، هو أن الإسلام، من حيث هو عقيدة، ومن حيث هو تنظيم، لم يصطدم مع النصرانية قط أيام الرسول، بل كانت العلاقة بينهما منذ ورقة بن نوفل إلى قبيل وفاة الرسول، علاقة حسن جوار، وتعاون، في كل المجالات، كما نقول اليوم. ولكن حدث قبل وفاته (ص) أن جاءته الأخبار بأن الروم، بالتعاون مع بعض القبائل العربية المقيمة شمالي غربي الجزيرة، يهيئون للانقضاض على المدينة، ليقضوا على الدعوة الجديدة، وعلى صاحبها، وعلى أتباعها وأنصارها، وعلى الدولة الناشئة، فجهز صلوات الله عليه، جيشاً بقيادة زيد بن حارثة، وأمر إذا قتل أن يخلفه جعفر بن أبي طالب، المعروف بذي الجناحين، وإذا قتل جعفر يتولى القيادة عبدالله بن رواحة، وقد كان ذلك، وقام خالد بن الوليد، بعبقريته العسكرية الفذة، في تنظيم انسحاب الجيش، ثم جهز الرسول (ص) جيشاً آخر بقيادة أسامة بن زيد، وفيه من كبار الصحابة أبو بكر وعمر، ولكن الله قد استأثر بنبيه قبل إنفاذ الجيش، وقام أبو بكر بإنفاذه. وما أعرف في تاريخ السيرة النبوية، التي هي جزء هام جداً من التاريخ العام، أن صداماً وقع بين المسلمين والنصارى في جزيرة العرب، سوى غزوة مؤتة.
أما اليهود فلهم شأن آخر، تكفي فيه الكلمات القصار: اعتبروا مواطنين في الصحيفة، وأنهم مع المهاجرين والأنصار ومَن تبعهم من المؤمنين أمة وحدهم من دون الناس، نعم! هكذا اعتبرهم الرسول (ص) في أول دستور وضع في الإسلام، ولكنهم لم يرعوا إلا ولا ذمة، فكان بينهم وبين الرسول (ص) ما كان.
نعود إلى النصارى، فإنهم حاولوا بكل قواهم، سواء أكان ذلك في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة، أعني في حكومة المناذرة التي كانت تحت حماية الفرس، أم في الشمال الغربي منها، أعني في حكومة الغساسنة التي كانت تحت حماية الروم، هؤلاء وأولئك حاولوا جاهدين أن يقضوا على الدولة الإسلامية الناشئة، ولا سيما بعد وفاة الرسول (ص)، فكان ما كان من الفتوحات، التي هي نتيجة طبيعية للدفاع عن النفس.
يخذون على الإسلام، كعقيدة، أو كنظام، أنه أجلى بعض المسيحيين عن جزيرة العرب، لأن الرسول (ص) قد أمر أن لا يجتمع فيها دينان. ولكن هؤلاء لا يذكرون أن الذي نفذ هذه الأوامر، وهو عمر بن الخطاب، قد اعتبر ذلك نوعاً من تبادل السكان، ومن الاستملاك، وهذا أمر مألوف في الحقوق الدولية العامة، لضرورات تقدرها الدولة. لا بل إن الاستملاك لم يقترن بالتعويض العادل ليس غير، بل إن عمر (رض) قد أضعف لهم حقوقهم ضعفين، فمن ترك عنزة عوض عنها إثنتين، ومَن فارق أرضاً دفع له أرضاً تعادل مساحتها ضعف المساحة المتروكة، كما أمر عمر بأن ينقلوا، وهم في غاية الرعاية والتكريم.
حينما وقعت الفتوحات الإسلامية، لم يُكرِه القادة المسلمون، ولا الولاة، أحداً من الناس على اعتناق الإسلام، وإنما خيروهم قبل القتال، ودعونهم أولاً إلى الإسلام، فإن أبوا، دعوهم إلى أداء الجزية، وإلا فالقتال هو الحكم. فإذا ظفر المسلمون كان لهم الحق في الاسترقاق والغنيمة. وإذا وقع الصلح، كانت أحكامه هي النافذة، وبقي الناس على دينهم، وهذا هو السر في بقاء النصرانية واليهودية في كل البلاد الإسلامية.
أما أولئك الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف وحده، فإننا لا نطلب إليهم أكثر من أن يضعوا أمامهم خريطة الفتوحات الإسلامية، وأن يلونوا القسم الذي وطئته أقدام الفاتحين باللون الأحمر، وأن يلونوا القسم الذي انتشر فيه الإسلام ولم يصل إليه الفاتحون باللون الأخضر، وسيرون أن القسم الذي انتشر فيه تلقائياً من غير مسعى أحد يبلغ ضعفي القسم الذي جرى عليه الفتحن على الأقل. على أن البلاد المفتوحة لم يقع فيها أي ضغط على الناس لاعتناق الإسلام.
وإنما نشير إلى هذا الموضوع العلمي التاريخي، لأن الذي وقع من قبل الدول النصرانية هو تماماً على العكس مما وقع في دولة الإسلام. ويكفي أن نذكر الأندلس، لنرى الفظائع الكبرى التي ارتكبت في تاريخ الإنسانية، وما جرته محاكم التفتيش على المسلمين من الكوارث في سبيل تنصير المسلمين. أضف إلى ذلك بقاعاً أخرى انتشر فيها الإسلام، وأنشئت فيها المساجد، ثم أصبحت أثراً بعد عين، منها رومانيا، وهنغاريا، وبلغاريا، واليونان، وبعض مناطق يوغوسلافيا وفي الجمهوريات السوفياتية.
لم تكتف الدول النصرانية بذلك، أي بالإمعان في محو كل آثار الإسلام من بلادها، على الرغم من أنه استمر قروناً، بل أخذت تلاحق الإسلام في عقر داره مستغلة ضعف بعض الدول الإسلامية، بل أكثرها، فأرسلت البعثات التبشيرية، ودعمتها بالأساطيل، وبالجيوش البرية، وبالموازنات الضخمة، وجاءت تارة باسم الثقافة والتعليم، وأخرى باسم الصحة والاستشفاء، وثالثة باسم الخدمات الاجتماعية وغير ذلك.
غير أن هذه الحملات التبشيرية التي كانت الأساطيل والجيوش والموازنات وراءها، لم تصنع شيئاً في البلاد الإسلامية، بل على العكس رأينا أساتذة وطلاباً من النصارى قد اهتدوا إلى الإسلام. ومن عجب أن الدول النصرانية لم تقصد إلى البلاد التي تنتشر فيها الوثنية، لتخرج أهلها من عبادة الأوثان إلى عبادة الله، بقدر ما قصدت إلى البلاد الإسلامية التي تدين بالتوحيد الحقيقي.
ولقد نعم النصارى منذ القديم في البلاد الإسلامية بالحرية الدينية، لا بل بأكثر من الحرية. فقد نقل محمد كردعلي في كتابه: «الإسلام والحضارة العربية» أن المبشرين النصارى كانوا يقفون على أبواب المساجد في الأندلس، وهم يدعون إلى النصرانية، وإلى عقيدة التثليث، التي ليس لها اصل في أناجيلهم الأربعة، وإنما ابتدعتها الكنيسة! فأين هذا من القهر الذي أعقب ذلكن بعد أن زالت الدولة الإسلامية عن أرض الأندلس، وتعذيب المسلمين، وقتلهم وإحراقهم؟!
ثم كانت الحروب الصليبية التي أغارت فيها الدول النصرانية على بلاد الإسلام، باسم الدين، وبتحريض من بعض الباباوات، وارتكبت فيها أبشع صور الهمجية البدائية، التي لم يهذبها أي دين، ولم يصقلها أي شرع. خلافاً لما فعل المسلمون في حالات النصر.
وكانت البعثات التبشيرية، كما كان التجار الأجانب والسياح، رسل الاستعمار الأوائل، فهم الذين مهدوا له، وقام بعضهم بدراسات حول البلدان التي نزل فيها، تسهل مهمة الجيوش. خذ على ذلك مثلاً السائح (فولني Volney) والسائح (سافاري Savary)، الذين هبطا مصر في القرن الثامن عشر، ووضع كل منهما كتاباً، فأما الأول فقد وصف الطرقات والقناطر والجسور والجبال والوديان والصحارى وقنوات المياه وغير ذلك، وأما الثاني فقد وصف في كتابه الحياة الاجتماعية، والأسواق، والعبيد، والجواري، ومجالس الغناء وما ماثل ذلك. فلما قام نابليون بحملته على مصر، وزع الكتاب الأول على الضباط لأنه أشبه بوصف طوبوغرافي، ووزع الثاني على الجنود لأنه تعريف للجنود بالبلد الذي سيهبطون فيه.
أقبلت الجيوش على العالم الإسلامي، وأمعنت فيه تخريباً وهدماً وتدميراً ومحاولة لاقتلاع كل مقوماته من جذورها، ولكنها لم تنجح في أية بقعة من البقاع.
وكان لنا من تجاربنا في سورية مع الاستعمار الفرنسي، الذي سموه انتداباً، ما يشيب لهوله الولدان.
لقد جاءت فرنسا إلى سورية ولبنان بحجة حماية الأقليات، وهي تعني النصارى وحدهم. وقد وقف فائز الخوري (ره)، خطيب الكتلة الوطنية، ذات يوم، في جامع بني أمية، بعد صلاة الجمعة، وقال بصوته الجهوري الأجش الرائع:
ـ يقولون: إن سبب وجود فرنسا في هذه البلاد، هو حماية الأقليات. أنا فائز الخوري، نائب الأقليات، أعلن أمامكم، وفي مسجد بني أمية، أنني أطلب الحماية منكم، أيها المسلمون، وأرفضها من فرنسا!
ولست أنسى بهذا الصدد أن عالماً يسوعياً هو الأب لامانس، البلجيكي، قد جاء قبل فرنسا، وألف خلال حياته التي امتدت حتى عام 1937 إثنين وعشرين كتاباً، كلها محاولة في الحط من قدر الإسلام، ومن نبيّه. كان لامانس من طلائع الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد، ولكنه لم يفلح إلا لفترة قصيرة. كانت كتبه معتمدة في أوربة، ولكن لما تغير اتجاه تأليف العلماء المستعربين، وأصبحوا يخجلون من الكذب والافتراء والتدليس والخداع، الذي امتد حتى فترة ما بين الحربين، وأخذ هؤلاء العلماء يقتربون من الحقائق بقدر الإمكان، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، ولما كثر العارفون باللغات الأجنبية والمؤلفون فيها من المسلمين، عندما تمّ هذا سقطت كتب لامانس اليسوعي وأمثاله، ولم يعد يعول عليها أحد، لا سيما وأن عالماً فرنسياً اعتنق الإسلام، وردّ على كتب لامانس اليسوعي بإثنين وعشرين كتاباً مماثلاً ـ ذكر ذلك الأمير شكيب أرسلان (ره) في كتابه «حاضر العالم الإسلامي» ـ . فوجد العلماء بين أيديهم مصدرين يستطيعون المقارنة بينهما.
ولابد لي من أن أشير إلى أمر في غاية الأهمية عند النصارى جميعاً، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وإن كانوا يتظاهرون أمام المسلمين بعدم الاهتمام به: ذلك أن القرآن الكريم قد تضمن معجزة لسيدنا عيسى، صلوات الله عليه، لم ترد في الأناجيل الأربعة الصحيحة عندهم. وهي أن السيد المسيح كلّم الناس في المهد صبياً.
* * *
وبعد فإن علاقة الإسلام بالنصرانية، والتعايش بينهما بأمن وسلام، أو الصدام، أو النزاع، أو الحروب، أو غير ذلك، إن هذا كله مما تقتضيه العقائد المختلفة. وإني لأذكر هنا كلمة قالها الأستاذ الصديق ادمون رباط في محاضرة ألقاها في قاعة (مونتني Montanigne) في مدرسة الآداب العليا في بيروت، يوم الأربعاء في الرابع من آذار 1981 جاء فيها:
إذا كان النصارى قد ظلوا موجودين بعد الإسلام في هذه البلاد فالفضل في ذلك يعود إلى آيتين وردتا في القرآن الكريم.
أولادهما: (لا إكراه في الدين).
ثانيتهما: (حتى يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
ولولا أن هاتين الآيتين موجودتان في القرآن الكريم، لما بقي للنصرانية أثر في البلاد الإسلامية.
-------------------------
* الجهاد والحقوق الدولية العامة في الاسلام
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة