مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
صلاح الدين الأيوبي في نتاجات الأدباء الانكليز
د. ضياء الجبوري


لقد اقترنت شخصية البطل الإسلامي صلاح الدين باهتمام خاص لدى الشعب الإنكليزي منذ العصور الوسطى وحتى الوقت الحاضر، ومن أبرز مظاهر هذا الاهتمام أن لفظة (صلاح الدين Saladin) كانت دوماً من الأسماء النادرة التي عرفها الإنكليز وتداولتها ألسنتهم منذ القرن الثاني عشر الميلادي. ولهذا الاهتمام الكبير أسباب عديدة: أولها تحرير (صلاح الدين) للقدس عام 1187م وقضاؤه على الدويلات الصليبية العنصرية مما اقض مضاجع الأوربيين وجعلهم يسخرون أبواق الدعاية الصليبية ضده ويرسلون المرتزقة والمغامرين لمقاتلته. وثانيها قيام البلاط الإنكليزي بإصدار قانون (ضريبة صلاح الدين Saladin Tithe) عام 1188، بعد مرور عام واحد فقط على دخول قوات (صلاح الدين) بيت المقدس. ويهدف هذا القانون الذي أوجب دفع ضريبة مقدارها 10% من المدخولات السنوية للأفراد الإنكليز كافة إلى جمع الأموال بغية محاربة (صلاح الدين) وتمويل الحملات الصليبية ضده. ومن الأسباب الأخرى التي هيمن فيها اسم (صلاح الدين) على الإنكليز قيام الملك الإنكليزي ريتشارد الأول المعروف ب‍ (قلب الأسد) بقيادة أضخم حملة صليبية أوربية شهدتهما سوح القتال في فلسطين ومكوثة زهاء عام ونصف في الأرض المقدسة (1191-1192) محاولاً بلا جدوى الإجهاز على (صلاح الدين) والنيل من انتصارات (حطين). ولهذه الأسباب وغيرها فإن (صلاح الدين) لم يكن في نظر الإنكليز عدوهم وعدو الأوربيين المشترك فحسب بل كان في نظر الكثيرين منهم (عدواً خاصاً) تقع عليهم، دون غيرهم من الأوربيين، مسؤولية الإطاحة به.
أن القصيدة المسماة (ريتشارد قلب الأسد Richard Coer Lion) تعتبر أقدم وأبرز عمل أدبي إنكليزي يلتفت إلى شخصية (الأيوبي). والقصة المنظومة الطويلة هذه يزيد عدد أبياتها على السبعة آلاف ونظمت في منتصف القرن الرابع عشر تقريباً.
الصورة التي يطرحها الشاعر الذي ما زلنا نجهل هويته ل‍ (صلاح الدين الأيوبي) واتباعه بعيدة كل البعد عن حياة هذا الرجل الذي انتزعت شهامته وبطولته إعجاب الأوربيين أنفسهم ومن بينهم الملك الإنكليزي (قلب الأسد) ذاته.
لقد قام الشاعر المعادي ل‍ (صلاح الدين) بإظهاره شخصاً هزيلاً قبيح المنظر يتميز بالجبن والحقد والخيانة ولا يعرف غير الهرب والهزائم في سوح القتال. وأما جيوشه وأتباعه فكانوا يلوذون بالفرار كالأرانب المذعورة لا يلوون على شيء حال بدء المعركة أو احتدام القتال. ولما كانت انتصارات (صلاح الدين) على (قلب الأسد) وغيره انصع من أن تحجب بكلمات رنانة أو ادعاءات كاذبة فانه قد لجأ في كثير من الأحايين إلى تسليط حقده السادي على (صلاح الدين) وعلى المسلمين عامة بصورة ممقوتة تعافها النفس ويمجها الذوق ويرفضها التاريخ.
ونورد هنا على سبيل المثال الحادثة التالية التي نسجتها مخيلة الشاعر والتي يتجلى فيها الكره الصليبي العنصري لرجال (حطين) بأعنف وأبشع صورة عرفها تاريخ الأدب الإنكليزي حتى الآن. فعند وصفه للمعارك التي خاضها (قلب الأسد) ضد (صلاح الدين) وما تخلل تلك المعارك من اتصالات ومداولات بين جيوشهما، يزعم الشاعر أن ملك الإنكليز قد طلب من مبعوثي (صلاح الدين) الحضور إلى وليمة عشاء فاخرة في مقره لتكريمهم.
وبعد قدوم رسل السلطان إلى المكان أمر الملك كبير طهاته أن يقوم بقتل بعض القادة المسلمين من الأسرى وأن يقطع رؤوسهم وطلب منه أن يشرف على طهي هذه الرؤوس وإعدادها للعشاء. وبعد فترة انتظار حان موعد العشاء، ولما أحضر خدم (قلب الأسد) وحاشيته الرؤوس المطهية امتقعت وجوه المدعوين واسقط في أيديهم. ولما هموا بالرحيل على عجل، استوقفهم الملك ليخبرهم عن المزايا الحميدة التي تمتاز بها لحوم المسلمين التي اعتاد أكلها وأضاف هازئاً:
لن أشكو الجوع في هذي الديار
ما دام المسلمون على قيد الحياة
ولن تضيرنا ندرة الماء والقوت هنا
فأجسادكم أيها المسلمون أشهى
والذ من الصنوف والألوان كافة.
بل لن نعود إلى انكلترة
حتى نلتهم المسلمين طرا.
ومن المشاهد الأخرى التي ينبغي الوقوف عندها في هذه القصيدة والتي كان لها تأثير كبير في الفن الإنكليزي في القرون الوسطى هو مشهد النزال بين (صلاح الدين) و(قلب الأسد) الذي اختلقه الشاعر اختلاقاً وذكر فيه أن صلاح الدين ينهزم أمام خصمه هزيمة مخزية.
ومن بين الشعراء الذين كتبوا عن (صلاح الدين) في القرن الخامس عشر جون ليدكت (1370-1451) ففي موسوعته القصصية (سقوط العظماء) يغالي الشاعر في التجني على (صلاح الدين) الذي يقول عنه أنه كان مخادعاً ونفعياً يرتقي سلم المجد على أكتاف الآخرين وينتقم من الذين يمدون له يد العون والمساعدة.
أما الشاعر الإنكليزي جشوا سلفستر الذي نظم قصيدة (انتصار الإيمان) عن أصل فرنسي عام 1571 فانه يحشر (صلاح الدين) مع طغاة العالم وغزاته الممقوتين الذين كان يتزعمهم النبي محمد (ص) كما يقول الشاعر دون أي وازع خلقي أو رادع إنساني.
وحين ظهرت مسرحية (ايرل أو عميد هنتغتون) عام 1601 كان مؤلفها انطوني مندي يتغنى بأمجاد الإنكليز وانتصاراتهم الموهومة على المسلمين على النحو الذي رأيناه في قصيدة (ريتشارد قلب الأسد) ومما صور ولفق أن جيوش (صلاح الدين) وأساطيله لم تقو حتى على الفرار من قبضة (قلب الأسد) الذي كان يتسلى بقذفهم فرداً فرداً في مياه البحر (طعاماً للأمواج الجائعة) على حد تعبيره.
على أن تشويه سمعة (صلاح الدين) على يد الأدباء الإنكليز لم يكن ليستمر إلى ما لا نهاية. فقد لعبت عدة عوامل في التخفيف من شدة الشعور العدائي نحوه خاصة في القرن السابع عشر وما بعده. ومن هذه العوامل وقوع الأدباء الإنكليز تحت تأثير الأدباء الأوربيين المتزايد وبصورة خاصة الكتاب الفرنسيين الذين لم يضمروا (لصلاح الدين) ذاك المستوى من الحقد والكراهية الذي انطوى عليه الأدباء الإنكليز، بل على العكس من ذلك كانت كتابات بعض الأوربيين تحوي في كثير من الأحايين نوعاً من الثناء والإطراء لكرم هذا الرجل وفروسيته. ومن خلال العلاقات الأدبية التي أخذت تتوطد بين انكلترة وأوربا "تسربت" بعض هذه المشاعر الكريمة نحو (صلاح الدين) إلى انكلترة. والعامل الآخر هو (البعد التاريخي) الشاسع الذي أخذ يفصل أدباء القرن السابع عشر ومن تلاهم عن القلق والمرارة التي سببتها لهم انتصارات (صلاح الدين) في القرن الثاني عشر.
وقد شهد عصر الملكة (اليزابيث الأولى) 1558-1603) ظهور أول الكتابات الجريئة التي أشادت ولأول مرة في تاريخ انكلترة الأدبي بمزايا (صلاح الدين) الحميدة وبعض جوانب شخصيته المثالية. وكان (وليم بينتر (ت 1594) من أوائل الرواد الذين استطاعوا أن يتحرروا من التقاليد الأدبية والشعبية المعادية (لصلاح الدين) والشرقيين عموماً.
ففي مجموعته القصصية الذائعة الصيت (قصر السرور) التي أصبحت فيما بعد مرجعاً هاماً ومعيناً لا ينضب للأدباء والمسرحين الإنكليز يفرد (بينتر) أقصوصتين كاملتين عن (صلاح الدين)؛ الأولى بعنوان (صلاح الدين وتوريللو) والأخرى بعنوان (الخواتم الثلاثة) وفي هاتين الأقصوصتين استطاع الكاتب أن يكشف لمعاصرته عن العديد من الجوانب الإنسانية التي كان (صلاح الدين) يتمتع بها.
على أن (وليم بينتر) لم يكن متحرراً تماماً من المشاعر الصليبية و(عقدة القدس) التي ظل الإنكليز يعانون منها. ففي الكتاب الذي امتدح فيه (صلاح الدين) يذكر المؤلف أن من أسمى الأهداف التي يسعى إليها هو "تأجيج نار الحقد ضد المسلمين عبدة الشيطان ومضطهدي النصارى الذين يضمرون العداء لا للأمة البريطانية وحسب بل ويهددون في الوقت نفسه أجساد المسيحيين وأرواحهم جميعاً".
ومن الكتاب الاليزابيثيين الآخرين الذين تناولوا (صلاح الدين) في مؤلفاتهم روبرت كرين (ت1592) القصصي والمسرحي المعروف الذي أدخل أقصوصة كاملة عن (الأيوبي) في مجموعته التي أطلق عليها (نسيج بنلوبي). وفي هذه الأقصوصة يروي (كرين) أن فتوحات (صلاح الدين) وانتصاراته جعلت منه بطلاً يشار إليه بالبنان ومعشوقاً تتمناه وتشتهيه كل العذارى.
وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية لشخصية (صلاح الدين) التي استطاع كل من (بينتر) و(كرين) أن يظهرها للقارئ الإنكليزي فأن تعليقات الكتاب الإنكليز وإشاراتهم إليه بقيت حتى القرن الثامن عشر بعيدة تماماً عن أي إدراك حقيقي أو تقويم عادل لشخصيته أو مكانته. ولولا كتابات الأديب إدوارد كبن (1737-1794) أشهر رواد المنهج العلمي في كتابة التأريخ لاستمرت الاتهامات والتلفيقات ضد (صلاح الدين) إلى ما بعد القرن الثامن عشر بكثير. فقد قال (كبن) في حق (صلاح الدين) ما لم يستطع أحد أن يجهر به من قبل. ولذلك فان هذا الأديب المؤرخ يعتبر أول إنكليزي يقوم بالاعتراف بمحرر (القدس) وبطل (حطين) ويعدد مناقبه دون غمز أو طعن.
ومما قاله (كبن) في كتابه الذائع الصيت (سقوط الإمبراطورية الرومانية) أن (صلاح الدين) كان "متواضعاً لا يعرف البذخ أو الترف ولا يرتدي سوى غير عباءته المصنوعة من الصوف الخشن. ولم يكن يعرف غير الماء شراباً... وكان متديناً، قولاً وفعلاً، يشعر بالأسى لعدم تمكنه من أداء فريضة الحج لأن كان منشغلاً في الدفاع عن الدين الإسلامي. وكان (صلاح الدين) يحافظ على تأدية الصلوات الخمس في أوقاتها فيقف خاشعاً مع أصحابه، وإذا ما اضطر إلى الإفطار في شهر رمضان فانه يؤدي الزكاة بسخاء بالغ. ومن شدة ورعه وتقواه أنه كان يقرأ القرآن وهو على صهوة جواده أثناء المعارك ووسط الجيوش المتهيئة للقتال".
وبعد الفترة التي عاش فيها (إدوارد كبن) تفتحت قرائح الأدباء الإنكليز وانهالت المدائح على (صلاح الدين). وأول من يذكر في هذا المجال الروائي الإنكليزي والترسكوت (1771-1832) أشهر كتاب الروايات التاريخية بين الإنكليز. وفي روايته الموسومة (التعويذة أو الطلسم) التي تدول حوادثها في فلسطين والتي تروي جانباً من حملة (ريتشارد قلب الأسد) على (بيت المقدس) يظهر (صلاح الدين) بدور العدو الشهم الذي يقدم يد العون والمساعدة حتى لخصمه الذي قطع آلاف الأميال لمقاتلته.
وقد أدى هذا النجاح الهائل لرواية (الطلسم) إلى قلب المعاني والدلالات التي كانت ترتبط عادة بلفظة (صلاح الدين) في الإنكليزية رأساً على عقب. فبعد أن كان الاسم يوحي بالعداء والكفر والضلال في القرن الوسطى أصبح الآن مرادفاً للشهامة والشجاعة والصدق. ومن ابرز الذين نظروا إلى (صلاح الدين) بهذا المنظار الجديد الروائي الإنكليزي الكبير (تشارلز ديكنز) (1812-1870) الذي وصف (صلاح الدين) بأنه "قائد شهم ورجل شجاع كريم" في الوقت الذي أنحى باللوم على أعدائه الصليبيين ووصمهم بالابتذال والتفكك والفساد. أما الشاعر والروائي موريس هيولت (1861-1923) الذي اشتهر في انكلترة بكتابة الروايات التاريخية، فبالرغم من تحمسه الظاهر الشديد للملك (ريتشارد الأول) الذي سرد حياته كاملة في رواية (حياة وممات ريتشارد ذي القول الفصل) التي نشرها عام 1900 فانه لم يجد ما يأخذه على (صلاح الدين) سوى السياسة والحنكة والدهاء.
ومن المفارقات التي تذكر في هذا المجال أن قادة الجيش البريطاني الذين حاربوا مع (ريتشارد قلب الأسد) ضد (صلاح الدين) والذين كانوا يعدون (الأيوبي) عدوهم الخاص لم يكن يخطر ببالهم أن أحفادهم فيما بعد سوف يمجدون هذا الرجل ويعترفون ببطولته وشجاعته. فقد قام مصممو الأسلحة الإنكليز في مطلع هذا القرن بتصميم وإنتاج نوعين من الدروع والسيارات المصفحة للجيش البريطاني أطلق على الأولى اسم (الشرقي أو المسلم Saracen وعلى الثانية اسم (صلاح الدين Saladin).
------------------------
المصدر : فضائية الجزيرة
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة