مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 قصة إسلامهم
محمّد أسد (ليوبولد فايس).. التحوّل الشامل الى الاسلام
حسن السعيد


في صيف عام 1900م، ولد "ليوبولد فايس" في مدينة "لوو" البولونيّة، التي كانت تابعة يومئذ للنمسا. كان ثاني ثلاثة أخوة لأبويه. وعن أجواء الطفولة وانعكاساتها يقول "فايس": "لقد كانت طفولة سعيدة مرضية حتّى في ذكراها، لقد كان والداي يعيشان في ظروف مريحة، وكانا يعيشان لأولادهم أكثر من أي شيء آخر. ولعلّه كان لوداعة اُمّي وهدوئها علاقة أو تأثير، بالسهولة التي تمكّنتُ بها، في السنين التالية، من أن اُكيّف نفسي للأحوال والظروف الجديدة، والمشؤومة الى أبعد الحدود. أمّا تبرّم أبي الداخليّ، فلعلّه منعكس فيما أنا عليه اليوم".
ورغم أنّ أباه كان من اُولئك الذين يعتبرون الدّين خرافة عتيقة، يمكن للمرء، في بعض المناسبات، أن يمتثل لها خارجياً، ولكنّه يخجل منها في سرّه.. غير أنّه مراعاة لأبيه (الذي كان حاخاماً) وحميّه _والد زوجته _ ألحّ على "فايس" أن يقضي الساعات الطوّال في درس الكتب المقدّسة. وهكذا لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتّى أصبح في إمكانه قراءة العبرانيّة بسهولة، والتكلّم بها بطلاقة؛ وذلك بمقتضى متطلّبات تقاليد عائلته اليهوديّة. بيد أنّه سرعان ما اُصيب بخيبة أمل باليهوديّة أودت به الى نبذ كلّ دين نظاميّ دستوريّ، حسب تعبيره.
في أواخر عام 1914م، وبعد اشتعال نيران الحرب العالميّة الأولى، بدا له أنّ الفرصة الكبرى لتحقيق أحلامه الصبيانيّة على قاب قوسين أو أدنى. كان إذ ذاك في الرابعة عشرة من عمره، فهرب من المدرسة والتحق بالجيش النمساويّ، بعد أن اتّخذ له اسماً مزوّراً، وبعد أسبوع أو نحو ذلك نجح والده في أن يتعقّب آثاره بواسطة البوليس، فيعيده مخفوراً الى فينّا، حيث كانت عائلته قد استقرّت قبل ذلك بزمن قليل، وحينما استدعي الى الخدمة العسكرية، بعد أربع سنوات كانت أحلامه حول "المجد العسكريّ" قد تبدّدت، وليتطلّع الى سُبل أخرى لتحقيق ذاتيّته.
انصرف طيلة عامين تقريباً بعد انتهاء الحرب، وبصورة متقطّعة نوعاً ما، الى دراسة تاريخ الفنون والفلسفة في جامعة "فينّا".. لكنّ المسلك العلميّ الهادىء لم يكن يجذبه.. ليقرّر ترك الدراسة نهائيّاً، ومن ثمّ يجرّب حظّه في الصحافة. دشّن حياة المهنة بالتطواف في أنحاء العالم الاسلامي، كمراسل صحافيّ. والوطن الإٍسلامي آنذاك كان يعيش حالة الانهيار والهزيمة، وإذا كانت المفارقات تنبّه النفوس وتحرّك العقول، فلا شكّ أنّ "فايس" بعقله النيّر قد لاحظ هذه المفارقة التي تزامنت آنذاك بين الأيّام القريبة لصولة الدولة الاسلاميّة، واتّساعها شرقاً وغرباً لتحتلّ حتى جزءاً من وطنه النمساويّ، وبين حالها بعد الحرب العالميّة الأولى..
وهكذا بينما كان صاحبنا منبهراً بالقوّة الكامنة في الاسلام، كان في الوقت نفسه، يحسّ بالاشفاق والعطف على هذه الأمة التي غدت حائرة تنشد طريقاً للخلاص ونهاية للمحنة.. كل ذلك تحوّل الى اهتمام جارف لدى "فايس" بوضع المسلمين ليجد لنفسه، في النهاية، أزاء خيار وحيد، وهو أن يعتنق الاسلام، وليقضي بقيّة حياته الفكرية في خدمة الاسلام والنّصح للأُمة حتّى وفاته في شباط (فبراير) 1992م.
كيف إعتنق الاسلام ولماذا؟
وعن كيفية اعتناقه الاسلام، ولماذا اعتنقه.. يحدِّثنا "محمّد أسد" فيقول:
"في عام 1922م تركتُ النمسا بلادي لأتجوّل في أفريقيا وآسيا بصفتي مراسلاً لبعض اُمّهات الصحف الأوروبيّة. ومنذ ذلك الحين قضيت كلّ أوقاتي تقريباً في الشرق الاسلاميّ.. ولقد كان اهتمامي بالشعوب التي احتككتُ بها في أوّل أمري اهتمام رجل غريب. لقد رأيتُ نظاماً اجتماعيّاً ونظرة الى الحياة تختلف اختلافاً أساسيّاً عما هي الحال في أوروبا. ومنذ البداءة الأولى نشأ في نفسي ميل الى ادراك للحياة أكثر هدوءاً _أو إذا شئت _ أكثر انسانيّة، إذا قيست تلك الحياة بطريقة الحياة الآليّة العجلى في أوروبا، ثمّ قادني هذا الميل الى النظر في أسباب هذا الاختلاف.
وهكذا أصبحتُ شديد الاهتمام بتعاليم الاسلام الدينيّة. إلاّ أنّ هذا الميل لم يكن في الزمن الذي نتكلّم عنه، كافياً لجذبي الى حظيرة الاسلام، ولكنّه كان كافياً لأن يعرض أمامي رأياً جديداً في إمكان تنظيم الحياة الانسانيّة مع أقل قدر ممكن من النزاع الداخليّ وأكبر قدر ممكن من الشعور الأخويّ الحقيقيّ.
.. لقد شجّعني هذا الاكتشاف، لكن الذي حيّرني كان ذلك التباعد البيّن بين الماضي والحاضر، من أجل ذلك حاولتُ الاقتراب من هذه المشكلة البادية أمامي من ناحية أشدّ صلة، لقد تخيّلت نفسي واحداً من الذين يضمّهم الاسلام. على أنّ ذلك كان تجربة عقليّة بحتة، ولكنّه كشف لي في وقت قصير عن الحلّ الصحيح..
وكنتُ كلّما زدتُ فهماً لتعاليم الاسلام من ناحيتها الذاتيّة، وعظم ناحيتها العلميّة ازددتُ رغبة في التساؤل عمّا دفع المسلمين الى هجر تطبيقها تطبيقاً تامّاً على الحياة الحقيقيّة. لقد ناقشتُ هذه المشكلة مع كثير من المسلمين المفكّرين في جميع البلاد ما بين طرابلس الغرب الى هضبة البامير (في الهند)، ومن البوسفور الى بحر العرب، فأصبح ذلك تقريباً شجىً في نفسي طغى في النهاية على سائر أوجه اهتمامي بالعالم الاسلاميّ من الناحية الثقافية. ثمّ زادت رغبتي في ذلك شدّة، حتّى أنّي _وأنا غير المسلم _ أصبحتُ أتكلّم الى المسلمين أنفسهم مشفقاً على الاسلام من إهمال المسلمين وتراخيهم. لم يكن هذا التطوّر بيّناً في نفسي، إلى أن كان يوم _وذلك في خريف عام 1925م _ وأنا يومذاك في جبال الأفغان، فقد تلقّاني حاكم اداري شاب بقوله: "ولكنّك مسلم، غير أنّك لا تعرف ذلك من نفسك". لقد أثّرت فيّ هذه الكلمات، غير أنّي بقيت صامتاً. ولكن لمّا عدتُ الى أوروبا مرّة ثانية في عام 1926م، وجدتُ أنّ النتيجة المنطقيّة الوحيدة لميلي هذا أن أعتنق الاسلام".
وحال اعتناقه الاسلام تسمّى بـ "محمّد أسد". ومنذ ذلك الحين وهذا السؤال يُلقى عليه مرّة بعد مرّة: لماذا اعتنقتُ الاسلام؟ وما الذي جذبك منه خاصّة؟ فيأتي جوابه: "هنا يجب أن أعترف بأنّني لا أعرف جواباً شافياً. لم يكن الذي جذبني تعليماً خاصّاً من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب المتراصّ بما لا نستطيع له تفسيراً من تلك التعاليم الأخلاقيّة بالإضافة الى منهاج الحياة العمليّة. ولا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها، فانّ الاسلام على ما يبدو لي، بناء تام الصّنعة، وكلّ أجزائه قد صيغت ليتمّم بعضها بعضاً ويشدّ بعضها بعضاً. فليس هناك شيء لا حاجة إليه، وليس هنالك نقص في شيء، فنتج عن ذلك كلّه ائتلاف متّزن مرصوص. ولعلّ هذا الشعور من أنّ جميع ما في الاسلام من تعاليم وفرائص "قد وُضعت مواضعها" هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي، وربّما كانت مع هذا كلّه أيضاً مؤثّرات أخرى يصعب عليَّ الآن أن أحلّلها...".
ومنذ ذلك الحين سعى الى أن يتعلّم من الاسلام كلّ ما يقدر عليه: لقد درس القرآن الكريم وحديث الرسول (ص). لقد درس لغة الاسلام، وتاريخ الاسلام وكثيراً ممّا كُتِبَ عنه أو كُتِبَ في الردّ عليه. وقد قضى أكثر من خمس سنوات في الحجاز، ونجد _وأكثر ذلك في المدينة _ ليطمئنّ قلبه بشيء من البيئة الأصليّة للدّين الذي قام النبيّ العربيّ بالدعوة اليه فيها. وبما أنّ الحجاز ملتقى المسلمين من جميع الأقطار، فقد تمكّن من المقارنة بين أكثر من وجهات النظر الدينيّة والاجتماعيّة التي تسود العالم الاسلاميّ.
بعد سنوات من الانقطاع لدراسة الاسلام، صار علماً من أعلام الاسلام في العصر الحديث. وبعد قيام باكستان اشتغل مديراً لدائرة "إحياء النظم الاسلامية" في البنجاب الغربيّة، ثمّ صار فيما بعد مندوباً مناوباً لباكستان في الأُمم المتّحدة، وفي عام 1953م استقال من منصبه، لينكبّ على الكتابة والتأليف. ومنذ عام 1964 حتّى عام 1980 يكون قد أنجز "مشروع العمر" وهو ترجمة معاني القرآن، باسلوب عصريّ خاطب فيه العقل الأوروبي مباشرة بلغة يفهمها.
أنشأ بمعاونة "وليم بكتول" (الذي أسلم هو الآخر) مجلّة الثقافة الاسلامية في حيدر آباد الدكن (1927)، وكتب فيها دراسات وافرة في تصحيح أخطاء المستشرقين عن الاسلام. كما ترجم صحيح البخاري (1935)، وألّف أصول الفقه الاسلاميّ، والطريق الى مكّة، والاسلام على مفترق الطّرق، ومنهاج الاسلام في الحكم، وشريعتنا هذه ، وعودة القلب الى وطنه (مذكّرات)...
مع ضرورة التذكير بأنّ "محمّد أسد" لم يرجع الى أوروبا منذ أن غادرها بعد اعتناقه الاسلام أواسط العشرينات.. فقد كان عاشقاً للاسلام وحسب.
-----------------------------------
المصدر : الاسلام والغرب، الوجه الآخر
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة