مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 الجغرافيا المستقبلية للصراع البشري
عبد الواحد علواني


لاشك أن أحداث القرن العشرين جعلت إنساننا المعاصر أكثر قلقاً بشأن مستقبله ومستقبل أبنائه، فحصيلة الدمار والقتل فيه تتجاوز بكثير كل ما حدث في القرون التي سبقته. ومع التقدم التكنولوجي الهائل، وتطور أسلحة الدمار الشامل، ودخول عصر الثورة الإعلامية باتت ساحات المواجهة والصدام تنذر بالويل كل بقعة من بقاع عالمنا الأرضي الذي كان يوماً ما فسيحاً!.
حوار الحضارات
قبل ما يقارب العقدين طرح روجيه جارودي (المتنقل بين اتجاهات عصر الأيديولوجيات) مشروعه (حوار الحضارات) داعياً إلى تأسيس أرضية للتفاهم بين شعوب الأرض، وكان مشروعه يتسم بسمة أساسية هي نقد الهيمنة الغربية على عالم اليوم. واعتبر الغرب عرضاً ألمّ بمسيرة البشرية وبشّر بزواله! ويبدو أن جارودي كان يرى أن الغرب يعيش عصر التداعي والانهيار البطيء نحو الهاوية!.
أما سياسيو الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين (وخاصة في مذكراتهم) فقد كانوا يعبرون عن اتجاهات الغرب البراجماتية أكثر من المفكرين، بل إنهم كانوا ومازالوا يستخدمون الاستطرادات الفلسفية للمفكرين لترويج تصورات تؤكد حق الغرب بالوصاية على بقية الشعوب (التي لم تبلغ سن الرشد وفن المقاييس الغربية) ومن هذا القبيل نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير التي أطلقها فوكوياما (الياباني الأصل والأمريكي الجنسية) النظرية التي انتشرت سريعا لتتداعى بسرعة أكبر.
فهل ينتقل التواصل بين الحضارات من دائرة النزاع والصراع إلى دائرة الحوار والتعايش. يبدو ذلك بعيداً مع أن الإطار النظري ينمو باطّراد. ولكن استمرار الهيمنة الغربية يبدو وهماً لابد أن يستفيق منه الغرب. فالفهود الآسيوية تحقق معدلات تنمية قياسية، وتنافس في المجال الاقتصادي أعرق عن مؤسسات الغرب، والإرادات الوطنية والثقافية تؤكد حضورها ومقاطعتها للقيم الغربية التي كانت لفترة طويلة مطلبا من مطالب الصفوة في المجتمعات غير الغربية، والعالم الإسلامي تعصف فيه صيحات الاستنكار وتتصاعد الأصوليات التي تمثل ردود فعل ضد الهيمنة بأشكالها، ويتزايد أعضاء النادي النووي على الرغم من تحديدات النظام العالمي الجديد ورقابته الصارمة.
كل هذه الأسباب وغيرها الكثير تجعل الغرب يراجع حساباته لئلا يفاجئه الطوفان ذات يوم! ولعله ـ بلسان مفكريه الموضوعيين ـ يفكر بآفاق جديدة لعلاقته والآخرين وخاصة أنه يؤمن ومنذ زمن طويل أن الغرب يواجه الباقي! ولعل خير أفق هو ما يتداخل مع حوار الحضارات وتعايشها.
الغرب في بنائه السياسي ـ الاجتماعي الذي يتجلى في الديمقراطية الداخلية قد طور نظاما اجتماسيا (اجتماعياً سياسياً) فصل به بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي، وبنفس الوقت حرص على إبقاء الوهم بأن الاجتماعي يحكم السياسي! وأقرب مثال لهذا الأمر، الحرية الفردية وحرية الرأي والمثاليات الفلسفية التي تتجلى في شكل اجتماعي، ومع ذلك قلما تعارض ما هو سياسي، مع أن السياسي براجماتي نفعي، بل إنه بشكل أو بآخر مهيمن وتآمري!.
المعادلة التاريخية
وهذه المعادلة التاريخية التي حققها الغرب راجعة في أصولها إلى الفصل بين الدين والدولة اعتماداً على قول السيد المسيح (عليه السلام): (ادفعوا ما لقصير لقيصر، وما لله لله)، فالكنيسة في قمة الشكل الاجتماعي، ومع ذلك تبقى في هامش الشكل السياسي!.
في صيف (1993) نشر المفكر الأمريكي الشهير (صموئيل هنتينجتون) مقالاً في صحيفة Foreign Affairs تحت عنوان (صدام الحضارات) محاولاً قراءة مستقبل العالم المعاصر وتأكيد تحول مسارات الصراع في القرن القادم إلى صراع بين تلك الحضارات وليس صراعاً أيديولوجياً أو اقتصادياً.. ومع تمايز الحضارات التي يحددها بسبع أو ثماني حضارات في أمور عدة، فإنه يأخذ بالبعد الديني كأكثر ما يميزها ويجعلها تتباين عن بعضها البعض، ويتوقع (هينتنجتون) أن هذه الحضارات ستلهب خطوط التماس فيما بينها.. وهي الحضارات: الغربية، والإسلامية، والكونفوشيوسية واليابانية، والأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، وربما الإفريقية!.
أثارت مقالة هنتينجتون عاصفة من الانتقادات والجدالات والسجالات، ورد هنتينجتون على منتقديه بأن تصوره في هذا المقال قد تكون فيه ثغرات، ولكنه يبقى خير تصور متوفر للقرن القادم.. وأخذ على منتقديه عدم طرحهم لأي بديل!.
الجاران اللدودان
التعقيب الأكثر إثارة (بالنسبة إلى العالم الإسلامي على الأقل) كان تعقيب محرر صحيفة الإيكونوميست (بريان بيدهام)، الذي اختزل بداية الحضارات الثماني إلى ثلاث حضارات رئيسية وهي: الغربية والإسلامية والكونفوشيوسية ثم قلل من شأن هذه الأخيرة ليصل إلى نتيجة تقضي بأن الصراع التقليدي بين الجارين اللدودين الإسلام والغرب عائد إلى الواجهة في القرن الحادي والعشرين!.
لقد سقطت أوهام فوكوياما سريعاً.. وتحولات العالم المعاصر وارهاصاته تؤكد أن التاريخ لم ينته.. بل ربما يكون أمام بوابته الحاسمة، وها هو (هنتينجتون) ينذر الغرب، فيطرح رؤية تمثل التحولات المعاصرة، والدوافع الكامنة في الحضارات الأخرى، ولا تستهين بقدراتها الذاتية في انتشال نفسها من حمأة التبعية والتخلف لتكون نداً مكافئاً للغرب!.
ويؤكد ريجيس دوبريه (المنظر اليساري الشهير) في مقال له في مجلة (رسالة اليونسكو) هذا التوجه الجديد، ويثمنه باستشهاده بقول لـ أوغست كونت: (إنك لا تهدم ما تستبدله، والدين ليس أفيون الشعوب، ولكنه فيتامين الضعفاء).
ولعل تعقيب بيدهام يكتسب أهمية خاصة، ذلك أنه يخص الإسلام بمعظمه.. ويتساءل بيدهام بداية: لماذا يؤمن بعض الغربيين بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) نبي مرسل، بينما لا نجد مسلماً واحداً يقول أن يسوع المسيح (عليه السلام) هو ابن الله ?!.
وهي إشارة واضحة إلى صعوبة اختراق منظومة المفاهيم الإسلامية، وبيان لطبيعة التبادل الثقافي بين الإسلام والغرب على مرّ العصور. فالإسلام يشكل حالة أرق مزمنة للغرب، بل إن الذهنية الغربية تربط سلامة مجتمعاتها وشعوبها ودولها وقيمها ببقاء الإسلام أسيراً لحالة التبعية والضعف والانكسار.. وهذه الفكرة يغذيها التاريخ الطويل من الجراح المتبادلة يمتد أربعة عشر قرنا!.
ويقول بيدهام بناء على ملاحظته القريبة للعالم الإسلامي: إن الإسلام فيه عجز ديمقراطي، ويبدو لنا أن بيدهام لا يجانب الصواب برأيه هذا، ذلك أن فهم المسلمين للإسلام فيه عجز ديمقراطي حقاً!.
ويقارن بيدهام بين الإسلام في مطلع قرنه الخامس عشر، وبين أوربا في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، محاولاً الربط بين إرهاصات العالمين في تحديدهما الزمانيان، ليستنتج أن عصر التحولات الكبرى في عالم الإسلام قد آن أوانه! ويسدي بهذا الصدد نصائح عدة للعالم الإسلامي ويسهب بيدهام في ثلاث قضايا رئيسية هي: الاقتصاد الإسلامي، وضع المرأة، العجز الديمقراطي!.
ولكن تعقيب بيدهام تشوبه تنبؤات سياسية كذبتها الأحداث سريعا، وهو في تنبؤاته أشبه ما يكون بغطاس يتخبط بين وصفاته الجاهزة.
(هنتينجتون) يخشى على الغرب من رايات الصلة الإسلامية ـ الكونفوشيوسية (في إشارة إلى التعاون النووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية)، وبيدهام يرى أن الأصولية النامية في العالم الإسلامي قد تضع مستقبل الغرب (وليس مصالحه فقط) على كف عفريت! لأنها (الأصولية) لن تتعامل مع الغرب إلا في إطار العداء التقليدي التاريخي للجارين اللدودين.
الصراع والتعايش
يجد بيدهام أن على الغرب أن يدرك حقيقة لا مفر منها، وهي: إما أن يبقى على هيمنته وعدائيته فيفتح الأبواب على مصاريعها أمام عواصف واحتمالات يصعب تقدير أخطارها، وبذلك لا ينفصل عن حالة القلق التاريخية التي تسود علاقته مع جاره، هذا الجار الذي لا يجد فصلاً بين الدين والدنيا!.
وإما أن يسعى إلى التآزر معه ليكسب معاً وضعاً إنسانياً متميزاً يعود بالنفع على البشرية جمعاء، فما يؤهلهما لأن يكونا قطبين متصارعين، هو نفس ما يمكنه أن يجعلهما طرفي تعايش مثمر.
فهل ينظر العالم الإسلامي إلى القرن الحادي والعشرين بجدية أوفر ومسؤولية أكبر ليتجاوز مأزقه التاريخي ?. لعل وعسى.
---------------------------------
المصدر : الاسلام و الغرب
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة