مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 رياح الإسلام
الشاعر الالماني الكبير شلّر واستلهامه القصص الاسلامي
عبد الرحمن بدوي


من أوائل الشعراء الألمان الذين تأثروا بموضوعات من القصص الاسلامي الشاعر الكبير فريدرش شلر (1759_1805).
فقد اثبت أمدروز في بحث له بعنوان: "رواية عربية لإحدى قصائد شلر القصصية" "مجلة الدراسات الشرقية" RSO ج3 (1910)، وجود أصل عربي للقصة الشعرية Ballade التي صاغها شلر بعنوان: "الذهاب إلى مصهر الحداد" وخلاصة هذه القصة الشعرية أنه كان خادم تقي يدعى فريدولين يخشى الله ويخلص في خدمة الكونتيسة فون سافرن Von Savern ويبذل كل ما في وسعه لإرضاء مطالبها، فرفعته فوق سائر الخدم، وكانت تمتدحه أمامهم باستمرار، حتى عدته بمثابة ابن لها. فغلا صدر روبرت، الصياد بالحسد عليه.
وذات يوم وهو عائد مع سيده الكونت من رحلة صيد نفث سموم الدس والوقيعة في صدر سيده، بأن اتهم الكونتيسة بأنها تخونه مع فريدولين الخادم الأشقر. وصدق الكونت هذه الدسيسة وأمر خادمين بأن يذهبا إلى مصهر الحداد وينتظرا هناك. وعليهما أن يلقيا في نار المصهر بأول شخص يرسله إلى هناك ويسألهما: "هل أطعتم كلمة مولاي". وبعث روبرت الدساس بفريدولين إلى مولاه، فقال هذا له: "اذهب فوراً إلى مصهر الحداد واسأل خادمي هناك هل أطاعا كلمتي". ولكنه قبل ان يذهب توقف وتساءل لعل الكونتيسة في حاجة إلى شيء، وراح يسألها: "إني أُرسلت إلى الحداد، فهل أنت في حاجة إلى شيء، لاتي في خدمتك" فأجابته الكونتيسة قائلة: "بودي لو أستمع إلى القداس، لكن ابني مريض، فاذهب أنت ياولدي. ورتل الدعاء وأد الصلاة من أجلي، وكفر عن خطاياك، حتى احظى بالنعمة الإلهية". ومضى فريدولين، ولم يكد يبلغ نهاية القرية حتى سمع قرع نواقيس الكنيسة وهي تدعو المصلين. فدخل الكنيسة، ولم يجد بها أحداً لأن الوقت كان وقت الحصاد والناس في الحقول، ولكنه صمم على أن يخدم القسيس في القداس، وساعده عند المذبح، وأدى فروض الصلاة بدقة وإتقان، واستمر حتى فرغ القسيس من الصلاة. وأعاد كل شيء إلى مكانه، ثم غادر الكنيسة راضي الضمير، متوجهاً إلى مصهر الحداد وهو يتمتم ببعض الدعوات الدينية. ولما بلغ المصهر وشاهد المدخنة والخادمين صاح: "هل تم ما أمر به الكونت؟" فأشارا إلى قاع الفرن وقالا: "لقد تم ما طلبه، وسيمتدحنا الكونت". وعاد مسرعا بهذا الجواب الى الكونت، فلما رآه هذا قادما من بعيد لم يصدق عينيه وصاح فيه "أيها الشقي! من أين أقبلت؟" فأجاب فريدولين: "من مصهر الحداد". فقال الكونت: "ابداً! لابد أنك أبطأت في المسير". فقال الخادم: "تلبثت فقط المدة التي قضيتها في الصلوات، لأني قبل أن أمضي لتنفيذ أمرك، رحت لأسأل سيدتي عما إذا كانت تريد شيئا، فأمرتني بالذهاب لسماع القداس. فأطعت أمرها، وتمتمت بالدعوات لنجاتها ونجاتك". فدهش الكونت كل الدهشة واضطرب وقال: "قل! ماذا كان جواب الخادمين هناك في مصهر الحداد؟" فقال فريدولين: "كان كلامهما غامضا، لقد أشارا إلى الفرن ضاحكين وقال: "لقد تم ما طلبه، وسيمتدحنا الكونت". فقال الكونت متعجلا: "وروبرت؟ ألم يلتق بك؟ لقد أرسلته إلى الغابة" فقال الخادم: "مولاي لم أجده في الغابة ولا في الحقول". فصاح الكونت: "الآن، الله في السماء قدر كل شيء!" ثم أخذ بيد الخادم متلطفاً معه، وأتى به إلى زوجته وهو في غاية التأثر، وهي لا تعلم عن الامر شيئاً، وقال: "هذا الولد لا يوجد له نظير في الطهارة بين الملائكة وأوصيك برعايته، لقد أساءوا النصح وأسأت الإنتصاح، أما هذا فالله معه وملائكته".
والأصل العربي لهذه القصة الشعرية نجده في قصة أحمد اليتيم. وخلاصتها أن رجلا محسناً ربى في كنف رعايته يتيماً اسمه أحمد، وأوصى حين وفاته ابنه أبا الجيش برعاية هذا اليتيم. فوضع كل ثقته فيه. وذات يوم فاجأ أحمد اليتيم إحدى القيان وهي بين أحضان أحد الخدم، وخافت على نفسها، فعرضت نفسها على أحمد حتى لا يفضح أمرها، لكنه أبى فخافت وسبقت هي باتهامه. فأمر أبو الجيش أحد أتباعه بأن يطيح برأس الرجل الذي سيأتي ومعه قارورة لملئها بالمسك، لكن أحمد توقف في الطريق، فجاء الخادم الذي كان على صلة بالقينة وتولى حمل القارورة، فأطاح برأسه ذلك التابع المكلف. بذلك وهنالك سأل أبو الجيش أحمد اليتيم عن حقيقة تهمة الخادمة. فروى له الحكاية بتمامها فأمر بإعدام القينة هي الأخرى.
والتشابه في الهيكل العام والمغزى واضح بين القصتين، ولا خلاف إلا في بعض التفاصيل. وشلر استمد مادة القصة من قصة وردت في "المعاصرات" لرتيف دى لابريتون (1734_1806).
وثم قصيدة أخرى لشلر عنوانها: "الرهن" أو "الضمان" تقوم على الوفاء في الصداقة حتى التضحية بالنفس. وخلاصتها أن دامون تسلل إلى مخدع ديونسيوس الطاغية، والحنجر مخبأ في ملابسه فانقض عليه الشرطة وقيدوه بالاغلال واقتادوه إلى الطاغية فصاح هذا فيه: "ماذا تريد بهذا الخنجر؟" فأجاب دامون: "أريد تخليص المدينة من الطاغية". فقال الطاغية: "ستكفر عن هذا على الصليب" فقال دامون: "أنا مستعد للموت، ولا أطلب منك العفو، كل ما أسالك إياه هو أن تمنحني مهلة ثلاثة أيام حتى أجد لأختي زوجاً، وأترك صديقي رهينة، وتستطيع إعدامه، إذا أنا لم أرجع". فتضاحك الملك ماكراً ساخراً وقال بعد تفكير: منحتك هذه المهلة، فإذا انقضت قبل أن تعود تحمّل هو العقاب بدلاً منك". وذهب دامون إلى صديقه وقال له: "أن الملك يطلب مني أن أدفع حياتي ثمناً لفعلتي المتهورة، لكنه رضي بأن يمنحني مهلة ثلاث ايام حتى أجد لأختي زوجاً. فكن رهينة عند الملك".
وتركه الملك يذهب، وقبل مشرق فجر اليوم الثالث كان قد زوج أخته ومضى مسرعا قبل انقضاء المهلة، فمر بعقبات شديدة ومصاعب: من أنهار وسيول وجبال، وأوشكت الشمس على المغيب حين شاهد أبراج مدينة سرقوسة. ولقيه في الطريق فيلوستراس، فتعرفه وقال له: "لن تستطيع إنقاذ صديقك! فانج بحياتك أنت، لأن صديقك يعالج القتل الآن". ولكنه استمر في طريقه، ولما بلغ باب المدينة وجد الصليب قد نصب، وتجمع الناس حوله، ورفع الصديق فعلا بالحبل إلى الصليب، فصاح دامون: "اشنقني أنا أيها الجلاد! فأنا الذي من أجله تشنق هذه الرهينة". فتلفت الناس متعجبين وشاهدوا الرجلين متعانقين. فأرسلوا عبراتهم ولم توجد عين لم تذرف الدمع في هذا الجمع الحاشد. فتجمهروا وراحوا إلى قصر الطاغية رووا له ما حدث. فقال الطاغية، بعد أن التمسوا منه العفو: "لكم ما طلبتم! لقد هيجتم قلبي بالشفقة. ان الوفاء ليس كلمة جوفاء. فخذوني معكم إلى هذين الصديقين. ولأكن صديقهما الثالث".
وفكرة الرهينة هذه ووفاء الصديق لها نظيرها في قصة كثيراً ما وردت في الكتب الاسلامية للدلالة على الوفاء. ومن بينها القصة التالية التي رواها الأبشيهي في "المستطرف"، (طبع بولاق، ج1 ص 235 وما يليها)، قال:
"وأما الوفاء بالعهد ورعاية الذمم فقد نقل فيه من عجائب الوقائع وغرائب البدائع ما يطرب السامع ويشنف المسامع، كقضية الطائي وشريك، نديم النعمان بن المنذر. وتلخيص معناها أن النعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس من صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن اليه وأغناه. وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليتزود شيئاً لصبيته وصغاره. فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه. فلما رآه الطائي، علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول. فقال: "حيا الله الملك! إن لي صبية صغاراً، وأهلا جياعا. وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم. وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس وقد قربت من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلى بين أول النهار وآخره. فإن رأى الملك في أن يأذن لي في أن أوصل اليهم هذا القوت، وأوصي بهم أهل المروءة من الحي لئلا يهلكوا ضياعاً، ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره". فلما سمع النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه على ضياع أطفاله، رق له ورثى لحاله. غير أنه قال له: "لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا. فإن لم ترجع قتلناه" وكان شريك بن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
يا شريك بن عــدي ما من الموت انهــزام
من لأطفال ضعــاف عدموا طعم الطعـــام
بين جوع وانتظـــار وافتقــار وسقـــام
يا أخا كــل كريــم أنت من قوم كـــرام
يا أخا النعمان جُد لـي بضمــان والتــزام
ولك الله بـــأنــى راجع قبــل الظـلام
فقال شريك بن عدي: "أصلح الله الملك: عليّ ضمانه". فمر الطائي مسرعا، وصار النعمان يقول لشريك: "إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع"، وشريك يقول "ليس للملك عليّ سبيل حتى يأتي المساء". فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك! قم فتأهب للقتل!" فقال شريك: "هذا شخص قد لاح مقبلا، وأرجو أن يكون الطائي فإن لم يكن، فأمر الملك ممتثل". قال فبينما هم كذلك، وإذا بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعا حتى وصل. فقال: "خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي". ثم وقف قائما وقال: "أيها الملك! مر بأمرك!". فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه، وقال: "والله ما رأيت أعجب منكما! أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه، ولا ذاكرا يفتخر به. وأما أنت يا شريك! فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء. فلا أكون أنا ألام الثلاثة. ألا وأني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي، وكرم شريك". فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيـــرة فعددت قولهم من الأضـــلال
إني امرؤ مني الوفاء سجيـــة وفعال كل مهـذب مفضـــال
فقال له النعمان: "ما حملك على الوفاء، وفيه إتلاف نفسك؟" فقال: "ديني، فمن لا وفاء فيه لا دين له": فأحسن إليه النعمان، ووصله بما أغناه، وأعاده مكرما إلى أهله، وأناله ما تمناه".
وبالمقارنة بين قصة شلر الشعرية وبين هذه القصة نرى الشبه التام حتى في أدق التفاصيل. فمن أين استقى شلر قصته؟ أثبت جرجر Gragger في مقال له "بمجلة الأدب المقارن" (سلسلة جديدة، ج18 ص 120 وما يتلوها) أن شلر استمد مادة القصة من Krummachers . . Liebeskind . Herder . Palmblattern (ج1، ص77) التي ظهرت سنة 1786 في مدينة بينا. وبقي أن نثبت أن ما ورد في هذه قد أخذ عن مصدر اسلامي مثل الأبشيهي.
--------------------------------
المصدر : دور العرب في تكوين الفكر الاوربي
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة