مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 الاسلام في الغرب
المسلمون في الغرب
عبد الجبار الرفاعي


كيف تعامل القشتاليون النصارى مع مسلمي الأندلس بعد سقوطها؟
كيف كان جزاء الغرب للأندلس، التي أعارته العقلانية والتنوير وأسباب النهضة؟
وهل استطاع الانسان الغربي ان يتجاوز عقدته هذه المرة تجاه الحضارات الأخرى، ويتعايش مع هذه الحضارة؟!
أم ان عقدته ظلت مستحكمة، ولما يتمكن من الإفلات منها، ولو مرة واحدة في تاريخه، ليتحاور مع حضارةٍ ما؟!
قبل الإجابة على هذه الاسئلة، قد يُقوّل البعض هذه التساؤلات، زاعماً أنها مركزية غربية معكوسة، وهي بالتالي ذات طبيعة عدوانية تجاه الآخر.
ولكن ذلك غير صحيح، لأن التجربة التاريخية في الصراع الحضاري بين الغرب والحضارات الأخرى في الامريكتين، وأفريقيا وآسيا، تؤكد على أن الغرب كان أبداً أسيراً لعقدته تجاه حضارات الآخر، ولعل ما اَلَ اليه حال الاسلام والمسلمين الذين تجذّر وجودهم في الأندلس، يمثل أوضح نموذج لتلك الروح العدوانية.
ولسنا هنا في مقام استقصاء كل عمليات القتل، وحرق الأحياء، تدمير وإبادة التراث الاسلامي التي نفذها الصليبيون في الأندلس كما وثقها المؤرخون، ولكن سنذكر بعض الأمثلة والنماذج، لكي نتعرف على "جزاء سنمار" الذي كان نصيب المسلمين وتراثهم في الاندلس.
لقد عامل الصليبيون أهل الأندلس بعد أن سقطت بأيديهم بروح ثأرية عدوانية، حتى (ان القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهراً الى الكفر، ففعلوا ذلك، وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة، ثم تعدوا الى أمر آخر، وهو أن يقولوا للرجل المسلم:
إن جدك كان نصرانياً فأسلم فترجع نصرانياً... وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع قوم عن التنصر، واعتزلوا النصارى، فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك، منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسلباً...).
وكانت أحكام الاعدام بالنار كثيرة ضد المسلمين، وكانت تنفّذ في مهرجانات عظيمة يتفرج فيها القساوسة، ورجال الدولة، والاهالي، وأحياناً الملك، وكبار رجال دولته، وكان يحرق المتهمون جماعياً في مواكب الموت للترهيب، وأحياناً عائلات بأكملها، بأطفالها، ونسائها، وكانت محاكم التفتيش تحاكم الموتى، فتنبش قبورهم، وتتابع الغائبين، وتعاقب أهلهم، وكان اعضاؤها يتمتعون بالحصانة الكاملة.
وكان المتهم يسجن في سجن ضيق خشن، يُقَيد فيه بالأغلال، ويُحرَم من الطعام والشراب والنوم... وتلجأ المحكمة الى درجات أشد وأقسى من صنوف التعذيب، منها تعليق المتهم من يديه ورجليه على الحائط، ومنها دفع المتهم الى مكان عالٍ وإلقائه ليهوي الى الأرض، ومنها أيضاً الكي بشعلة ملتهبة.. وتعريض قدمي المتهم بعد أن تطليا بالشحم الى نار ملتهبة، ثم يظهر المفتش لانتزاع الاعتراف، وفي كثير من الحالات كان الكثير يموتون قبل الإدلاء بأي اعتراف.
وقد نجحت أساليب محاكم التفتيش، في جر الأب لأن يشهد على ابنه، والابن على أبويه، والزوج ضد زوجته، والزوجة على رجلها، وقد هنأ البابا جريجوري التاسع في احدى المرات المفتش الكنيسي العام في شمال فرنسا على نجاحه المنقطع النظير في إرهاب الناس، حتى شهد الكثيرون ضد ذويهم من لحمهم ودمهم.
محنة الموريسكيين
الموريسكيون هم العرب المنتصرون الذي عاشوا في بلادهم الاندلس بعد سقوطها واضطروا للتظاهر بالنصرانية ولكنهم كتموا ايمانهم، فكانوا يقيمون الصلاة في منازلهم، ويغتسلون، ويمارسون شعائرهم بصورة سرية.
وكتبوا القرآن الكريم سراً باللغة العربية، مقروناً بشروح وتراجم الخميادية، و "الالخميادو" هي اللغة التي اتخذها الموريسيكيون بعد أن مُنعوا من استعمال العربية، وقد عرّفها مننديت أي بلايو (بأنها اللغة الرومانية القشتالية، تكتب بأحرف عربية).
وقد استعمل الموريسيكيون هذه اللغة في كتابة سيرة الرسول والمدائح النبوية، وقصص الأنبياء، وبعض كتب الفقه، والحديث، مع كتابة البسملة والآيات القرآنية دائماً خلال هذه الشروح السرية باللغة العربية، وقد كانت معظم الكتب الالخميادية تكتب بالشكل الكامل، حتى يمكن قراءتها بطريقة صحيحة.
وقد ترك الموريسكيون تراثاً أدبياً من النثر والنظم استعملوا في كتابته "الالخميادو"، وتوجد منه مجموعات كثيرة في مكتبة مدريد الوطنية، ومكتبة أكاديمية التاريخ.
ولكن محاكم التحقيق "التفتيش" لاحقت الموريسكيين، فحضرت عليهم كل ممارسة أو شعيرة إسلامية يمارسونها في الخفاء، حتى انها وضعت قائمة طويلة بهذه المحضورات، ومنها:
ان الموريسكي أو العربي المنتصر، يعتبر انه قد عاد الى الاسلام، اذا امتدح محمداً، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً.
ومنها:
ان يحتفل يوم الجمعة بأن يلبس ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً "باسم الله" أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يقسم بايمان القرآن أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجه وجهه نحو المشرق، الى غير ذلك من الامور التي لا نهاية لها.
وكان قد صدر قانون في عهد الامبراطور شارلكمان سنة 1526م، يحرم على الموريسكيين التخاطب اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، واستعمال العمامات، واقامة الحفلات على الطريقة الاسلامية... وفي سنة 1555م توفي هذا الامبراطور، وخلفه ولده الملك فيليب الثاني، الذي كان شديد التعصب والتزمت، فحدد ذلك القانون القديم بتحريم استعمال اللغة العربية، وسائر ما هو عربي من العادات والتقاليد، وأعلن قانوناً في غرناطة أول يناير سنة 1567م في اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، ينص على انه:
يمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد منهم ان يتكلم، أو يكتب، أو يقرأ اللغة العربية، أو يتخاطب بها، وكل معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة، ولا يعتد بها لدى القضاء أو غيره ويجب ان تسلم الكتب العربية، من أية مادة، لتُقرأ وتُفحص، ثم يُرد غير الممنوع منها لتبقى لدى أصحابها مدى الاعوام الثلاثة فقط.
وكذلك الثياب العربية، فلا يصنع منها أي جديد، ولا يُصنع إلاّ ما كان مطابقاً لأزياء النصارى، ويحضر على النساء الموريسكيات التحجب، وعليهن أن يكشفن وجوههن، وأن يرتدين المعاطف والقبعات عند الخروج، ويجب أن تجري سائر حفالتهم طبقاً لتقاليد الكنيسة وعُرف النصارى، ويجب أن تُفتح المنازل أثناء الاحتفال بأية مناسبة، وكذلك أيام الجمع والاعياد ليستطيع القس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والرسوم المحرمة، ويحرم إنشاد الأغاني القومية، ويحرم الخضاب بالحناء، ولا يسمح بالاستحمام في الحمامات، ويجب أن تُهدم سائر الحمامات العامة والخاصة.
لم يتوقف اضطهاد الموريسكيين عند هذا الحد، وانما تواصل حتى انتهى الى ان يتخذ مجلس الدولة قراراً بالإجماع في 30/1/1608م، ينص على طرد الموريسكيين من بلادهم، ونفيهم الى خارج اسبانيا، وقد اتخذت تدابير قمعية رهيبة أزاء من تخلف منهم عن الرحيل، فمثلاً صدر قرار عام 1611م، بالنسبة للمتخلفين من المسلمين في "بلنسية"، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة، لكل من يأتي بمسلم حي، وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قُتل.
لقد لخص العلامة الاسباني الدون برونات، في كتابه "الموريسكيون الاسبان ونفيهُم" بعض ما لحق الآداب والفنون في أسبانيا من ظلامية ونضوب، بفعل نفي الموريسكيين وابادتهم بقوله:
(ان السياسة الاسبانية لم تكتف بنفي الموريسكيين، وما ترتب عليه من نضوب حقولنا ومصانعنا وخزائننا، ولم يقتصر الأمر على انتصار التعصب وبربرية "ديوان التحقيق"، بل تعداه الى اختفاء الشعر، وشعور الجمال الموريسكي، والادب السليم، الذي رفع سمعة تاريخنا... انه اختفى بنفي الموريسكيين الأدب المعطر، والشاعرية الشعبية، والخيال الممتع، ومصدر الوحي الذي كانوا يمثلونه وقد غاض باختفائهم من شعرنا، هذا التلوين، والفن والحيوية، والالهام والحماسة، التي كانت من خواصهم، وحل محلها الظلام في الأفق الأدبي، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر).
-------------------------------
المصدر : "متابعات ثقافية"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة