مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 نظرة الغربيين للإسلام
حول الثغرات المنهجية في المعرفة الاستشراقية
عبد الجبار الرفاعي


لم تولد المعرفة الاستشراقية في مناخ محايد، وإنما تشكلّت في ظل الصراع الحضاري الذي نشأ بين الشرق الإسلامي من جهة، والغرب النصراني من جهة أخرى، وما جسدته الحروب الصليبية التي تواصلت حوالي مائتي عام، من تعبير دموي عنيف عن هذا الصراع.
ومما يؤكد هذه الحقيقة أن اللاهوت الغربي، كان يجسّد القاعدة العلمية والتنظيرية لكل ثقافات، وديانات الغير (فلقد كان أساتذة اللغات الشرقية، العبرية وأخواتها، واليونانية، كانوا برمتهم من رجال اللاهوت، أو أنهم انطلقوا منهم ـ وأن ـ هذه التبعية للاهوت لم تُمكّن الاستشراق في القرنين السابع والثامن عشر من التوصل إلى نتائج علمية ذات قيمة مستقلة إلاَّ لماماً) حسب شهادة بروكلمان.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد أضحت الأساطير المترجمة إلى اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى عن الشرق، أهم مصدر للتعرف على الشرق، والاستعداد لقصده والترحال فيه، كما نلاحظ ذلك في قصص "ألف ليلة وليلة" التي تُرجِمَت إلى أغلب لغات أوروبا منذ زمن مبكر، وكانت من أكثر المؤلفات العربية انتشاراً، وأوسعها دراسة وترجمة، وكان المستشرق الفرنسي "أنطوان جالان Galland Antoine 1646-1715"، من أوائل الذين ترجموا هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية، ونشره في "12" مجلداً ما بين "1704-1708" وقد أُعيد طبع هذه الترجمة أكثر من سبعين مرة، هذا فضلاً عن عدد كبير من الترجمات الأخرى التي قال عنها أحد الباحثين:
"ولن يكون بإمكاننا أن نأتي بلائحة كاملة أو شبه كاملة ـ لترجماتها ـ لأن ذلك يستوعب مجلدات بكاملها ـ وحسبنا هنا أن نشير إلى أهم ما نقل منها إلى أهم اللغات الأوروبية، مع العلم أن الترجمة الواحدة أُعيد طبعها مرات كثيرة تصل إلى الثمانين".
وربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن كتاب "ألف ليلة وليلة" يعتبر ـ في نظر الغربيين آنذاك ـ أهم كتاب يصف المجتمعات الشرقية ويعكس حقيقة علاقاتها ويحدد طبيعة ثقافاتها، ولذا جعل الافتتان بهذه القصص العديد من الأوروبيين يخلطون بين الشرق الحقيقي، وشرق هذه القصص، فالليدي "ماري مونتاغو Mary Montago" مثلاً، اعتقدت أن القصص هي وصف دقيق للمجتمع الشرقي الذي لامست أطرافه، بصفتها زوجة لسفير بريطاني، وكتبت بسذاجة مفرطة:
"أن هذه القصص كتبها مؤلف محلي، ولذلك فهي تصور عادات الناس هنا تصويراً حقيقياً".
وبذلك تداخل الخيال والواقع عند القارئ الغربي، حتى توهم أنهما شيء واحد، أما "غوبينو Gobineau" الفرنسي، الذي بدأ سفره وهو تحت تأثير الأفكار نفسها، فقد كتب:
"كلما خطونا خطوة في آسيا، ازداد اقتناعنا أن كتاب ألف ليلة وليلة، هو الأكثر دقة، وصحة، وكمالاً، من سائر الكتب التي وصفت أقطار هذا الجزء من العالم".
تلك هي خلفية العقل الغربي، ومصادر تلقي معرفته عن الشرق، التي تكون طبقاً لها وعيه عن هذا الجزء من العالم، وبذلك عندما عمل الغرب على توثيق الشرق "أو ذلك الآخر، ذلك النقيض العدو" فانه ـ كما أشار ادوارد سعيد ـ انتهى إلى توثيق نفسه، ومع أن قصص الرحلات في إنجلترا الفيكتورية عكست خصوصية كل فرد من أولئك الرحالة، إلاّ أنها كانت بشكل رئيسي تكراراً لأفكار موروثة.
واستمر الباحث الغربي يكرر ذاته في وعيه للشرق، منذ أن بدأت طلائع الدراسات العربية الإسلامية هناك، ومنذ الطلائع الأولى للرحالة الغربيين إلى بلاد الشرق، فلم تبرح وعيه آناً ما تلك الصورة، التي ابتنى إطارها على أساس تزييف اللاهوت الغربي لديانات وثقافات الغير، وما بثته الأساطير ـ ألف ليلة وليلة وغيرها ـ من أفكار خيالية عن تلك البلاد وانسانها، فعندما كان الغربيون يذهبون إلى الشرق كانت تلك "أي الصورة المشوهة للشرق" هي الصورة التي يبحثون عنها، فينتقون ما يرونه بعناية، ويتجاهلون كل ما لا ينسجم مع الصورة التي كونوها سابقاً ـ حسب تعبير مكسيم رودنسون ـ.
وبتعبير آخر:
أن المعرفة الاستشراقية التي أفرزها العقل الغربي، لم تعد معرفة علمية موضوعية ـ كما يحلو البعض أن يقول ـ، وإنما صارت سلطة استطاع الغرب من خلالها أن يكرس حالة التبعية له في ديارنا، حتى في حقل الدراسات والأبحاث التي ما انفكت تتحرك في ضوء المتطلبات الغربية، وأضحى عدد كبير من الباحثين من أبناء هذه الديار في أسر هذه السلطة المعرفية، كما وصف ذلك المفكر المسلم مالك بن نبي في قوله:
"أن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت في الواقع درجة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً، وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا أن عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصرون ـ وهم أساتذة الثقافة العربية في الغد وباعثوا نهضة الإسلام ـ، يصرون كما أوجبوا على أنفسهم، على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذتهم الغربيون، وعن هذا الطريق أوغل الاستشراق في الحياة العقلية في البلاد الإسلامية، محدداً بذلك اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة".
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة