مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب تأثيرات المسلمين في الحضارة الأوربية.
مقارنات بين أثر إسلامي وملحمة دانتي
عبد الرحمن بدوي


ثمة مشابهات عديدة في التفاصيل بين كتاب "المعراج" الذي يشرح عروج الرسول محمد (ص) وبين "الكوميديا الإلهية" للشاعر العالمي الكبير دانتي:
1- دليل النبي (ص) هو جبريل الذي يريد أن يتولى ما كلفه الله به من مهمة "أن يرى النبي في هذه الليلة عجائب عظيمة من أسرار ملكوته وقدرته"، و"أن الله يحبه حباً جعله يريد له أن يرى كل أنواع الناس الذين يعيشون والذين ماتوا"، وهذا تماماً هو ما يقوله فرجيل لدانتي وهو يصحبه في أرجاء الجحيم في الأناشيد الأولى من "الجحيم".
2- يلقى النبي في بدء رحلته إلى الآخرة ثلاثة "أصوات" تعترضه، فيفسرها جبريل له تفسيراً رمزياً، كما يفسر فرجيل لدانته الرمز الذي يدل عليه الذئب الذي لقيه في بدء رحلته في الجحيم.
3- في أنواع العذاب:
(أ‌) نجد أن العذاب في الأرض الأولى من الجحيم ـ بحسب كتاب المعراج ـ هو "بالريح العقيم". وهي ريح قاسية عاصفة صرصر عاتية، كالمرأة العقيم التي لا تحمل ولا تشفق على أحد أبداً". وفي جحيم دانتي نجد "الريح الخبيثة" aer maligno و"الريح الجهنمية التي لا تسكن أبداً" هي عذاب المعذبين في الدائرة الثانية من الجحيم.
(ب‌) وفي الأرض السادسة من جحيم "كتاب المعراج" يعذب المعذبون "بماء حميم" و"هو ماء شديد المرارة شديد الحرارة، حتى أن الصخرة الكبيرة كبر أكبر جبال الدنيا تذوب منه لو صب عليها، وفي هذا الماء الحميم يستحم المعذبون". وهذا الماء كالمهل يشوى الوجوه، ويغلي في البطون., ويناظره في جحيم دانتي "المستنقع القذر"lerda pozza و"الحمأة السوداء" belletta negra في مستنقع الاستوجي stige ـ وذلك في الدائرة الخامسة من الجحيم.
(ح‍) وفي الأرض الثانية والرابعة من جحيم كتاب "المعراج" تنقضّ العقارب والأفاعي على المعذَّبين. والسم يسري "في اللحم، أو العظم، أو الأعصاب". لكن يعاد خلقهم بأمر من الله ويعودون كما كانوا من قبل "ليزاد في عذابهم". ونظير هذا تماماً نجده في الدائرة السابعة حيث تنهش الأفاعي المعذبين ثم يعاد خلقهم من جديد لزيادة العذاب.
(د) في الأرض الخامسة في جحيم كتاب "المعراج" العذاب يكون بحجر الكبريت المعلق في رقاب المذنبين. "ويلتهب الكبريت والمذنب معه فيصبحان لهيباً". ونجد منظراً شبيهاً بهذا في الدائرة الثامنة من جحيم دانتي.
(ه‍) وفي كتاب "المعراج" يعذب الوشاة والساعون في الفتنة بقطع شفاههم بمقص من النار الملتهبة، وشهاد الزور بقطع لسانهم. وفي الدائرة التاسعة من جحيم دانتي يعذّب "مثيرو الفتن والبدع" بأن يقوم جنّ بتقطيع أطرافهم بقسوة وذلك بحدّ السيف.
***
4- ووصف مقام الشيطان في كتاب "المعراج" (ص 149_150 يزيد في احتمال تأثر دانتي بالإسلام. وهذا الوصف تتألف عناصره من:
(أ‌) سقوط الشيطان من السماء إلى الأرض السابعة في جهنم؛
(ب‌) الشيطان مارد هائل حتى أنه وإن كان مربوطاً في الأرض السابعة من الجحيم "فإنه من الضخامة حتى أنه يمس برأسه هذه الأرض التي نحن عليها".
(ح‍) مقام الشيطان في الأرض السابعة من جهنم يحيط به الظلمات من كل جانب.
(د) مقام الشيطان يفتح على باب جهنم من ناحية، ومن ناحية أخرى يفضى إلى ريح الزمهرير.
ونجد لهذه العناصر نظائر واضحة في النشيد الرابع والثلاثين من جحيم دانتي، وخصوصاً بعض التفاصيل مثل "الزمهرير".
***
(ه‍) كذلك يبدو التشابه واضحاً جداً بين وصف كتاب المعراج "لجنات النعيم" في السماء السابعة ودخول الأبرار في الجنة، وبين وصف دانتي للجنة الأرضية في الأناشيد من 28 إلى 33 في "المطهر".
(أ‌) "فجنات النعيم" فيها مروج ناضرة مزهرة، وعلى ضفاف الأنهار ترتفع سرادقات "حور" الجنة (ص 90،116، وقارن ص85، 86).
(ب‌) وحوريات الجنة ينشدن أناشيد عذبة يتغنين فيها بنعيم الأبرار، وتتخلل الأغاني آيات من القرآن.
(ح‍) في الجنة عينان نضاختان من إحداهما يشرب المقرَّبون ويتطهرون وفي الثانية يستحمون وتنزل عليهم رحمة الله. وبعد أن "يردوا كلتا العينين" يذهبون إلى الجنة فيسألون عند الباب: هل تطهرتم؟ فيجيبون: نعم؟ فيفتح لهم حارسها الباب ويدخلون" (ص 96).
وهاتان العينان تناظران الليتيه Lethe وايونوئيه Eunoe عند دانتي.
***
6- وقد أشار أسين إلى وجود شجرة "طوبى" الواردة في القرآن (وفي كتاب "المعراج") في جنة دانتي، في النشيد الثامن عشر، الأبيات 28ـ33. وقد وصفها كتاب "المعراج" (ص99ـ100).
***
يقول الباحث الإيطالي اتشرولي إن الذين نقدوا أسين بلاثيوس (المستشرق الأسباني الذي نادى بتأثير المعطيات الإسلامية على الكوميديا الإلهية) قد وجهوا إليه ـ من بين ما وجهوا ضده من حجج ـ هذه الحجة: وهي أن المشابهات التي أوردها بين الأخرويات الإسلامية وبين ما ورد في "الكوميديا الإلهية" لدانتي هي من الاتساع بحيث تقتضى أن يكون دانتي قد كان على اطلاع واسع جداً على الكتب الإسلامية المختلفة؛ ولما كان هذا غير معقول، فإن دعوى أسين باطلة.
ويرد اتشرولي على هذه الحجة التي وجهها خصوم أسين بلاثيوس بأن يقول "إن أوروبا الغربية في العصر الوسيط، خصوصاً بواسطة أسبانيا النصرانية، كانت على علم بالروايات الأخروية الإسلامية، علم إزداد غنى خصوصاً عند نهاية القرن الثالث عشر. والأخبار التي وصلت أو جمعت عن الاعتقادات الإسلامية المتعلقة بالآخرة كانت من التشويق والإمتاع إلى درجة أَنها ترجمت عدة مرات من لغة إلى أخرى من اللغات الشعبية أو إلى اللاتينية بحيث أمكن انتشارها انتشاراً واسعاً جداً لإشباع حب الاستطلاع الذي كان لدى القوم في الغرب بالنسبة إليها وينبغي أن ننوه في هذا الصدد بما بدأه الملك ألفونسو العاشر، الحكيم، ملك قشتالة الذي أمر بترجمة "كتاب المعراج" ترجمة كاملة إلى اللغة القشتالية (الأسبانية) واللاتينية والفرنسية تحت عنوان La escala de Mahoma, Liber Scalae Machometi, Livre de l' Eschiele Mahomet يصف المعراج النبي محمد ورحلته إلى الآخرة. وهكذا عرف الغرب تصورات المسلمين للجنة والنار حوالي سنة 1260، بفضل إبراهام الحكيم وبونافنتور داسيينا.
إن دانتي لم يعرف اللغة العربية ولا الأدب العربي: وما يذكره عن المؤلفين للعرب ـ من فلاسفة وعلماء ـ لا يخرج عن الحدود المعلومة لمعارف الاسكلائيين في عصره. ولم يكن له موقف شخصي من الإسلام خاص يختلف عن الموقف المعهود لدى معاصريه من الغربيين. لقد كان ينقصه إذا إمكان الوصول إلى المصادر العربية مباشرة؛ ولهذا فإن المسألة التاريخية عن العلاقات بين "الكوميديا الإلهية" لدانتي وبين الروايات الإسلامية تتحدد داخل نطاق ما من هذه الروايات يمكن بيقين أن نؤكد وصوله إلى الغرب عند نهاية القرن الثالث عشر.
فنحن إذن، من الناحية العربية، أمام مشكلة علاقات لا مع الأدب "الكبير"، كما قد يدفعنا إلى التفكير في ذلك من الناحية الإيطالية اسم دانتي العظيم: بل بالعكس نحن أمام مشكلة العلاقات بين الكوميديا الإلهية لدانتي وبين نصوص من الأدب "الصغير"، وخصوصاً بين "الكوميديا" وبين نص شبه شعبي خال من المهارة الفنية، هو كتاب "المعراج"، "لكن في ثنايا رسائل أخرى (مثل "مناظرة" الكندي؛ و"حوار" عبد الله بن سلام اليهودي) جمعت في مجموعة طليطلة وفي ثنايا كتاب ريموندولولو ـ نقول إنه في ثنايا هذه الكتب كلها وردت روايات وأَقاصيص وأفكار وتصورات متعددة المصادر، جمعت في هذه الكتب المذكورة ومزجت على أنحاء مختلفة.
والعلاقات بين "الكوميديا الإلهية" وبين كتب "الحديث" الغنية يمكن، بهذا المعنى، أن تكون غير مباشرة: وذلك بقدر ما استطاع دانتي أن يعرف من الروايات الإسلامية ذلك المقدار الذي دخل في المؤلفات التي ترجمت من العربية إلى اللغات الأوروبية حتى نهاية القرن الثالث عشر.
وكذلك فإن الروابط بين دانتي وكتب الفلسفة العربية كانت غير مباشرة، وقد عرفها من خلال الفلسفة الإسكلائية بحيث لا تصبح المسألة هنا فردية تتعلق بدانتي وحده، بل تتعلق بالأحرى وبوجه عام بتاريخ الثقافة في العصر الوسيط في علاقاتها بالفكر الإسلامي.
"فإذا أردت تلخيص الموقف لقلت إن مسألة المصادر الإسلامية "للكوميديا الإلهية" تتعلق خصوصاً بكتاب "المعراج" و"بالمجموعة الطليطلية" وبسائر الأخبار الأوروبية عن الأخرويات الإسلامية، أي أَن المسألة تتعلق بكتب عربية غير علمية دخلت في الثروة الثقافية لأوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عن طريق أسبانيا". (اتشرولي: "كتاب المعراج" ص544ـ545).
وهكذا، وبفضل نشر "كتاب المعراج" والنصوص المتعلقة بالروايات الإسلامية عن الآخرة مما ترجم إلى الأسبانية والفرنسية واللاتينية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، تأيّد الفرض الذي افترضه أسين بلاثيوس وأيده بشواهد أخرى، وأصبح من الثابت الآن أن دانتي، شاعر أوروبا الأكبر، قد تأثر إلى مدى بعيد عميق وهو يؤلف "الكوميديا الإلهية" بالإسلام والتصورات الإسلامية للآخرة. ويستوي بعد هذا أن يكون تأثره بأدب "صغير" أو أدب "كبير"، المهم أن المادة التي أودعها "الكوميديا الإلهية" قد دخلت في تركيبها عناصر إسلامية عديدة وفريدة وذات أهمية بالغة في إنشاء أثره الأدبي الخالد هذا.
------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الأوربي"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة