مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب نحن وأزمة الغرب الروحية
حسين احمد امين


كان الطابع الدنيوي للحضارة الغربية ردّ فعل لأهوال الخلافات الدينية في العصور الوسطى، فقد كان من المحتم أن تحدث في الغرب، إن عاجلاً أو آجلاً، حركة مضادة لهذا الطابع. وقد بدأت هذه الحركة المضادة في التبلور في الخفاء في الوقت الذي كان سائر العالم- ومنه الأقطار العربية- ينهل فيه من الحضارة الغربية نهلاً، ويتخلى عن تراثه الثقافي وعن تقاليده ودينه. وكانت المأساة المضحكة أنه في اللحظة التي تم فيها تبني الشعوب غير الغربية لحضارة الغرب الدنيوية، وجدت هذه الشعوب نفسها قد وقعت في شباك أزمة الغرب الروحية التي انتابته فجأة في القرن العشرين، والتي كان لها صداها في مختلف بقاع العالم. فمنذ نشوب الحرب العالمية الأولى، بدأ الغربيون أنفسهم يدركون أن حضارتهم الدنيوية الحديثة ليست بالكاملة على الإطلاق كما خالوها في البداية، وأنها أبعد ما تكون عن الحصانة ضد الانهيار وضد عنيف الأزمات. وقد كان الأمر في الواقع مؤسفا بالنسبة للشعوب غير الغربية أكثر منه بالنسبة لشعوب الغرب. فقد وجدت الأولى نفسها معلّقة بين تراث ودين وتقاليد قد هجرتها وفقدت ثقتها فيها، وحضارة غربية لم تملك بعد ناصيتها، ولم تكد تبلغ يدها الثمرة حتى بدت تلك الثمرة معيبة فاسدة.
وكان أن نتج عن هذا شعور حاد بالمرارة تجاه الغرب، وحدوث انفصام في المجتمع وفي نفوس الأفراد لّما يلتئم..
وقد علمنا التاريخ أنه في المجتمعات التي تمر بهرّات عنيفة، أو تطورات ضخمة متلاحقة، كثيراً ما تظهر جماعات دينية انعزالية تميل إلى أن تغلق الأبواب على نفسها في عالم خاص بها، وتقلل إلى أقصى حد ممكن من صلاتها وعلاقتها ببقية العالم. وقد ظهرت مثل هذه الجماعات بين كل من اليهود والمسيحين والمسلمين. وربما بين غيرهم من أتباع الديانات الأخرى. فمن بين أبرز الأمثلة التاريخية على رفض التكيف وفق الأحوال الجديدة، موقف الفريسيين اليهود من غير اليهود، إذ وضعوا القواعد المفصّلة الصارمة التي تكفل تجنب كل صلة بمن هوليس يهوديا وذلك حين كانت الهيلينية تهدد بابتلاع الديانة اليهودية واستئصالها من الوجود. كذلك ظهرت في بقاع كثيرة من العالم المسيحي، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، جماعات (أشهرها جماعة شهود يهوه)، أفرادها من المسيحيين الأتقياء الذين وجدوا من الصعب أن يوفّقوا بين الاكتشافات الحديثة في علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والنظريات المتعلقة بتاريخ الأرض وظهور الحياة فيها، وبين مفهومهم التقليدي عن الكتاب المقدس. وكان أن وجهوا همهم الاكبر إلى تجنب الاتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي سادت مجتمعهم، ورأوا أنه لابدّ من أجل حماية عقيدتهم من عزلة صارمة وسط مجتمع لابد أن تؤدي به ثقافته وأنماط عيشه إلى الكفر. وكانت النتيجة أن قبلت هذه الجماعات وضع الأقليات في مجتمع أفراده على دينها نفسه في الظاهر على الأقل.
وقد كان هذا هو ما حدث أيضاً في العالم الإسلامي مع بداية الثلاثينيات من هذا القرن، حين بدأت تظهر جماعات إسلامية دعوتها شديدة الاختلاف عن دعوة المصلحين الإسلاميين من أتباع محمد عبده، بل ورأت في هؤلاء "المصلحين" شبها قويا بدعاة التغريب إذ هم لم يطعنوا في قيم الغرب وإنما انتحلوها للإسلام، فلم يقدموا بفعلهم هذا بديلا حقيقيا لأمتهم. وقد ذهبت هذه الجماعات الجديدة، بدءا بجماعة الإخوان المسلمين، إلى أن الإسلام بمفرده قادر على التصدي لكل تفاصيل مظاهر حياة الفرد والمجتمع دون حاجة إلى اقتباس من حضارات وأنظمة أجنبية. ومع ذلك، ورغم هذا الإصرار منهم على شمولية الإسلام وتفرّده، وتميز كل نظمه ومفاهيمه عن كل النظم والمفاهيم الغربية، لم يفلحوا إلا في إبراز حفنة من النقاط والقضايا، ركزوا عليها وألحفوا في تكرارها إلى حد الإملال، دون أن يتجاوزوها إلى غيرها إلا في النادر. وأعني بهذه النقاط: موضوع الربا وفائدة البنوك، وسفور المرأة وتحديد النسل، والحدود، وكراهة العلمانية والعقلانية، والنفور من استخدام سبل البحث العلمي والمنهج التاريخي في مجال الإسلاميات.
الجماعات الانعزالية والمعرفة
ثم عيب خطير آخر يتمثل في مفهوم أفراد هذه الجماعات عن المعرفة. فهي عند المجتمعات المّتسمة بالحيوية والتحضر تعني استخدام المعروف في إماطة اللثام عن المجهول. أما عند هؤلاء فهي لا تعني أكثر من تجميع المعلومات. والمعلومات في رأيهم ليست بالمتطورة، النسبية، القابلة للاتساع، بل هي ثابتة خالدة. وقد نجم عن هذا المفهوم ثلاث عواقب:
الأولى: أن المعرفة عندهم لم تعد عنصراً ديناميكيا في الفكر، بل كتلة جامدة، مما أسهم في قهر كل نشاط فكري حرّ بدعوى مخالفته لأحكام السلف.
والثانية: أن اعتبار المعرفة دائرة مغلقة ثابتة يجعل من المحال اطراح شيء من المعارف المقبولة متى ثبت خطؤها أو عدم مسايرتها لأحوال العصر، ويجعل من الصعب تقبّل المعارف الجديدة ما لم تجد لها سنداً في فكر الأقدمين.
والثالثة: أن صار سبيل اكتساب المعرفة هو تجميعها من كتب الأسلاف، أو الكتب الحديثة القائمة على كتب الأسلاف، لا التحليل والاستنباط والتجربة والفكر الحر. وكلها عواقب خلقت عند غير المسلمين اقتناعًا بأنه لا يمكن للإسلام أن يكون له مستقبل ما دام عاجزاً عن مسايرة التطور.
المصدر : الاسلام والغرب

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة