مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب مطارحات العلاقة
مفهوم الحداثة بين النزعتين التغريبية والتقليدية
محمد محفوظ


في مقابل السعي الحثيث لتعميم نموذج الحضارة الغربية على العالم بأسره، كان هناك كفاح وجهاد مستميت تقوم به كل الشعوب والأمم ضد القوى المسيطرة على العالم التي تسعى نحو تثبيت أركان النموذج التحديثي الغربي في المعمورة كلها.
وعلى رأس هذه الشعوب والأمم، الأمة الاسلامية، حيث إن الاسلام بعقيدته وقيمه وتعاليمه ونظمه وأخيراً بحضارته، يشكل نموذجاً حضارياً بديلاً ومناقضاً لنموذج التحديث الغربي، فالشعوب الاسلامية برمتها تسعى نحو الانعتاق الحضاري الشامل من الغرب، لتشكيل نموذج حضاري، يتناغم والخصوصيات الذاتية للمجتمعات الاسلامية، والغرب بقوته وصناعته وأسباب القوة الأخرى المتوفرة لديه، يسعى نحو إبقاء وإلحاق العالم الاسلامي بالركب الحضاري الغربي. الذي يعني في حقيقة الأمر التمثل الحضاري الكامل للنموذج الغربي. وأمام هذا التجاذب والاستقطاب الحضاريين، نشأ في العالم العربي والاسلامي تياران يحاول كل منهما أن يبشر بنموذج حضاري معين، بعد محاولة ممارسة عملية النقد للنموذج الغربي لعملية التحديث. والذي يهمنا في هذا الإطار هو مناقشة آلية وعملية النقد التي قام بها هذان التياران.
أولاً ـ تيار التغريب والتذبذب الحضاري: ويضم مجموع القوى والشخصيات التي انطلقت في عملها الفكري أو الإجتماعي أو السياسي، من منطلق عقدي أو فكري ينتمي حضارياً للغرب، فهو يضم كل المنبهرين بالحضارة الغربية، الذي ربطوا مصيرهم بمصير الغرب سياسياً وحضارياً كما يضم التيار الماركسي، الذي حاول انطلاقاً من مقولات ثابتة أن يمارس عملية النقد والتشريح للنظام الرأسمالي الغربي، ومبشراً بعالم لا طبقية ولا استغلال فيه.
ولكي تتضح عملية النقد التي قام بها هذا التيار نقول: مع بداية الاستقلال الذي حصلت عليه بلدان العالمين العربي والاسلامي، بدأت الدوائر الأكاديمية الغربية تتجه إلى تطوير حقل أكاديمي جديد، وهو حقل التحديث والتنمية، وهدف الدوائر الغربية من هذا التطوير المذكور، هو الترويج للمفاهيم والطرائق الغربية في الحكم والإرادة (بمعناهما الواسع). والتركيز في عملية الترويج على النخب المثقفة أو ما يسمى بـ (أنتلجنسيا الدول العربية والاسلامية). وبدأت هذه الدوائر مدعومة من النخب الحاكمة بعد الاستقلال بمباشرة مهمتها، وقامت في هذا الاطار بتطوير مجموعة من النظريات والمناهج، التي تتعلق بعملية التحديث للمجتمع والدولة. وخلاصة هذه المناهج والنظريات يمكن اختصارها في المقولة التالية: (ان تحقيق التنمية والتحديث في البلدان العربية والاسلامية، لايمكن أن يتأتى أو يتحقق إلا إذا حذت هذه الدول حذو الدول الغربية، واتبعت نموذجها التحديثي وبتعبير آخر: إن النهج الوحيد للدخول في عالم التحديث والعصرنة لايمكن أن يكون إلا غربياً، مما يعني أن شرط التحديث هو الإلحاق والتبعية السياسية والثقافية والاقتصادية للغرب، أو فالتغريب شرط للتحديث وطريقه. كما أن مفكري العالم الغربي الصناعي هم الذين نظروا للعالم الثالث، وهم الذين حاولوا تشخيص مأساته، واستند جهدهم التحليلي والنظري إلى الإطار المرجعي الغربي، وهو إطار يعني التحيز أو التمركز حول الذات الأوروبية، وهكذا كان التفكير في مأساة العالم الثالث تفكيراً بالوكالة. فالفهم الذي قدمه الأدب التنموي لطبيعة العالم الثالث، وملامح المأساة التي يعيشها، فهم مشوه. ولذلك كان من نتائج هذا التشخيص الخاطئ أن نسبت أسباب التخلف إلى الأوضاع البنيوية والاجتماعية والحضارية لهذا العالم، بل وصلت بهم الجرأة إلى القول بأن الظاهرة الاستعمارية ذاتها لعبت دوراً رئيسياً في تطوير العالم الثالث وتحديثه وتنمية هياكله الأساسية، وقد أدت هذه الأخطاء إلى تنشئة أجيال من باحثي وزعامات العالم الثالث على هذه الأفكار وظهر ذلك واضحاً في خططهم التنموية. كما أدت إلى نشأة مدارس تنموية تحديثية حيث الخيار الاشتراكي أو الرأسمالي لطريق التنمية هو القضية المحورية.
وخلاصة الأمر في بيان الاطار النظري الغربي التي تحاول بعض المدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية المأثرة به هو التصميم من أجل استمرارنا في التبعية، ولنا ملاحظتان علي عملية النقد والاقتباس الذي مارسها هذا التيار وهي:
1 ـ إن النتيجة السياسية والثقافية التي مارست العملية استعارت أدوات البحث والتحليل الغربية ذاتها، بمعنى أن المجهود الفكري والثقافي والتحليلي الذي بذلته هذه النخبة، كان يكرس عملية التبعية والخضوع للغرب، ولم يكن هذا المجهود باتجاه التحرر والانعتاق من السيطرة والهيمنة الغربية.
2 ـ إن عملية التحديث تعتمد اعتماداً كلياً، علي تفعيل القدرات الذاتية للمجتمع وتوظيفها بما يخدم التطلعات الحضارية للمجتمع، ولا تعتمد على مبدأ التقليد الأعمى المفرغ من عملية الاستيعاب والابداع. كما أن عملية التحديث ليست عملية ميكانيكية بحته، حتى نجعل مؤشرات التحديث وعكسه، مؤشرات ومتغيرات كمية من قبيل الرفاه الاجتماعي ونسبة سكان المدن للريف، وعدد المدن التي يزيد عدد سكانها عن حد معين، ونسبة العمال الصناعيين للعدد الاجمالي للقوة العاملة، ومستوى دخل الفرد وما أشبه، بل إن عملية التحديث يجب أن تكون ديناميكة تعتمد على أسس راسخة وعوامل ثابتة في المجتمع.
ثانياً ـ التيار الاسلامي التقليدي: لا شك أن العالم الاسلامي أصيب بأزمة حادة ومتعددة الجوانب وفي جميع الحقول. وجاءت هذه الأزمة بفعل السيطرة والهيمنة الغربية علي العالم، والسعي إلى القضاء على كل مقومات البناء الذاتي في كل المجتمع، لكي يبقى هذا المجتمع رهين وأسير القوة والقدرات الغربية.
وحالة الصدام والمواجهة التي جرت بين العالم الاسلامي والحركة الاستعمارية الغربية ـ خلقت مجموعة دوافع وحوافز لدى أبناء العالم الاسلامي للعمل على إنتقاد النموذج التحديثي الذي حاولت الحركة الاستعمارية ـ وبالخصوص في الحقبة الأخيرة من استعمارها المباشر ـ تثبيته وتكريسه في البلدان الاسلامية.
وبكلمة واحدة فإن التيار التقليدي حاول أن ينتقد القيم المادية التي يعتمد عليها الغرب ويستمد منها تصوراته واستراتيجياته في الداخل والخارج.
ويمكن أن نلاحظ علي هذه العملية التي قام بها التيار التقليدي تجاه نمط الحداثة الغربية الأمور التالية:
1 ـ من المسائل الأساسية التي ينبغي أن يدركها الجميع، أن عنصر الأخلاق وحده لايصنع حضارة، صحيح أن العنصر الأخلاقي ركن أساسي في عملية البناء والتطور، لكن لايمكننا أن نستغني عن العوامل المادية والفنية التي تشارك في التقدم والازدهار الحضاري. واقتصار النقد علي الجوانب الخلقية أو الاستغلالية للشعوب الأخرى، أو المظالم العالمية المختلفة، يحصر الحديث حول بديل فاضل خلقياً، وعادل عالمياً، ثم يبقى الباب مفتوحاً للانهيار بمؤسسات الحضارة الغربية من الدولة إلى البنوك إلى الشركات والجمعيات المختلفة وابتلاعها مع بعض التحويرات الفوقية والشكلية، مما قد يحمل البديل الاسلامي بذور خرابه وانحرافه. لأن تلك المؤسسات ليست مجرد آلات صماء، لا قبل لها على فعل شيء، إلا وفقاً لما تعطاه من أوامر، وإنما هي مقومات قاعدية وهيكلية لنظام متكامل، ولها آلياتها وأحكامها. ومن ثم تؤثر في راكبها، ربما أكثر مما يؤثر هو فيها حتى لو حمل أخلاقاً غير تلك التي حملها راكبها السابق من أهل الحضارة الغربية.
2 ـ إن نموذج التحديث الغربي قد غزا العالم بأسره، وأصبح متغلغلاً في داخلنا، وبيوتنا ومدارسنا ومصانعنا، في عقول شبابنا وفتياتنا، في نمط الإدارة والحكم، في مؤسسات القطاع العام والخاص، في النظام التعليمي والاقتصادي والثقافي والإعلامي وما أشبه، لذلك لايمكننا أن نواجه هذا الغول بمنطق المتصوفين والمنهزمين في الحياة، أو بحقل من حقول معرفتنا ونظامنا الفكري المرجعي، وإنما ينبغي أن نواجه هذا النموذج التحديثي الظالم، بالإسلام على أساس شموليته وقدرته علي المواجهة الحضارية مع نمط الحداثة الغربية، لأن البديل الإسلامي لايقف في جزيرة وأعداؤه في جزيرة أخرى، وإنما هم في عقر داره، وفي قلب داره كذلك. مما يفرض عليه أن يصارع في ظل ميزان قوى في غير مصلحته، أي يجب عليه أن يخرج من تحت الركام والرماد. وأن يدخل في صراع وهو في أحضان الحضارة الغربية، وهو في قلب الشرنقة التي نسجتها من حوله: دولة، ومؤسسات، وأنظمة اقتصادية، وأنماط حياة. ولا يستطيع إلا أن يستخدم عدداً من الأدوات والمؤسسات التي نسجتها الحضارة الغربية، بل حتى الدولة التي سيسيطر عليها هي دولة تلك الحضارة، ولا يستطيع أن يبدأ إلا منها ومن خلال استخدام مؤسساتها وأجهزتها.
3 ـ من المؤكد أن عملية التحديث، هي عملية إنسانية مستمرة ودائمة، ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الانسان الدائم للجانب المادي والفني من المعرفة البشرية التراكمية، واستغلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها إيجابياً لتحقيق التقدم البشري بصورة دائمة.
فالحداثة بالدرجة الأولى مفهوم نسبي يعكس، قدرة الانسان الفرد والمجتمع على التفاعل واستخدام الطبيعة بصورة حسنة. لذلك ينبغي ألا نغفل المجهود الانساني المستمر عبر التاريخ الذي صنع عبر التراكم الإيجابي هذا التطور الهائل الذي يعيشه إنسان هذا العصر.
وفي رأينا أن كلا التيارين، لم يوفر الأسس المطلوبة للفهم والمعرفة العلمية والعصرية الدقيقة للحضارة الغربية، لذلك فإن أغلب الجهود الفكرية والمعرفية التي بذلت في نقد الحضارة الغربية لاترقى إلى مستوى التحليل العلمي الرصين والموضوعي في ذات الوقت. بمعنى أن تلك الجهود قدمت لنا الغرب باعتباره غابة بها كل الانحرافات والمشاكل المستعصية عن الحل وأن سبب ذلك يرجع لحالة الفراغ الروحي الذي يعيشه المواطن الغربي، مما بسط المسألة الدكتور النفيسي بقوله: (والذي يتأمل نتاج المطبعة الاسلامية و(فكر الدعوة) إذا جاز التعبير، يلحظ بعض التصورات الخاطئة المبثوثة بين الاسلاميين ومنها أن هذا العالم يعيش في حالة (الفراغ) فكري وروحي وقيمي وحضاري وأن الحركة الاسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ وتسده).
وأغفلت هذه الجهود بشكل أو بآخر نقاط القوة التي اتكأت عليها الحضارة الغربية في تقدمها ومدنيتها المعاصرة.
وينبغي التأكيد في هذا المجال، أن الحضارة الغربية بأمراضها وأزماتها المستعصية المستفحلة باستمرار، لن تخلي موقعها استجابة لنداء العقل والضمير، أو إيماناً منها بأحقية الاسلام وسموه. أو مراعاة لحقائق أو تطلعات تاريخية أو إنسانية، ولا احتراماً للبيئة والطبيعة التي أنزلت بها الحضارة الغربية أشد العقاب وأفدح الضرر. كما أنها ستمارس وتستخدم كل القوى ووسائل الهيمنة والسيطرة المتوفرة في جعبتها، لمنع نشوء قوة تنافس أو تعارض نموذج الحداثة الغربية.
وأخيراً فإن الموقف المطلوب من عملية التحديث والعصرنة، هو موقف الاستيعاب والتجاوز، استيعاب ما لدى المجتمع المتفوق من تراكم معرفي ومقدرة علي التحكم في شؤون البيئة والطبيعة، واستيعاب أسرار التقنية الحديثة وتجاوز لكل عناصر النموذج التحديثي الأخرى.
-----------------------------
المصدر : الاسلام، الغرب، وحوار المستقبل

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة