المهدي المنتظر... في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات - 5
كتابات - زهير الاسدي
 

(( دراسة علمية تتناول بالبحث والتحليل مسألة المهدي المنتظر على ضوء ما جاء في القرآن الكريم و السنن الكونية ويقوم بتفسيرها على حسب العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء والأحياء ونحو ذلك ))
المهدي مظهر لهوية الله في الآخرة
كما المهدي مظهر لهوية الله في الدنيا ( راجع الفصل السابق), كذلك هو في الآخرة , وكما الله يبسط العدالة الشاملة في الدنيا بواسطة المهدي , كذلك يفعل في الآخرة , وعلى هذا فإن جميع الآيات التي تشير إلى تكليم الله للناس ومحاسبتهم, ومجي الله يوم القيامة ونحو ذلك , إنما تشير بالتبع إلى الواسطة( المرآة) التي يتجلى الله فيها للناس , وهو المهدي عليه الصلاة والسلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
فهذه الآية مثلاً تشير إلى الكيان الذي يتجلى الله فيه :
(كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً*وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)[1]
الآية لا تشير إلى ذات الله التامة المطلقة, لأنه إذا كان الله موجوداً في كل زمان ومكان , فكيف يجيء إلى ساحة الحساب ؟؟ وأين كان قبل ذلك؟؟ بل الآية تشير إلى الشخص الذي تتجلى هوية الله في كيانه.
فلما كان الله تعالى مجده منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن النقص والمحدودية ولا يخضع للزمان والمكان , فإن مجيء الله المشار إليه في الآية الشريفة إنما يعني مجيء الكيان المقدس الذي يتجلى فيه, فيكلم الناس ويحاسبهم بتلك الواسطة التي يظهر بها .
وهناك المزيد من الآيات التي يشير ظاهرها إلى ظهور الله للناس وتكليمه إياهم ومحاسبتهم يوم القيامة نحو :
(.. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[2]
(.. أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[3] (قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)[4]
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[5]
فكما ترى هذه الآيات –وغيرها كثير- تشير ضماً وصراحة إلى تكليم الله للناس يوم القيامة, ولما كان الله منزه عن مجانسة مخلوقاته, ولا تجري عليه سنن الزمان والمكان, فإن الآيات تشير بالتبع إلى القائم بأمر الله ( المهدي) الذي صمم من قبل السماء لأداء مهمة العدالة في الدنيا والآخرة, فهو-كما أثبتنا من قبل- الواسطة الضرورية لظهور الله للناس في النشأتين وتكليمه إياهم ومحاسبتهم, ولا يمكن تحقق أو تصوّر الحساب وتكليم الله للناس دونما هذه الواسطة.
فنحن أمام مسألة  مجيء الله وتكليمه للناس ومحاسبتهم ,لا يتوفر لدينا إلا احتمالين لا ثالث لهما , وهما:إما أن يظهر الله للناس عياناً بذاته التامة المطلقة ويكلمهم جهراً , وإما أن يظهر لهم ويكلمهم بواسطة الكيان المقدس المصمم لأداء مهمة العدالة في الدنيا والآخرة .
ولما كان الاحتمال الأول يعني التجسيم وخضوعه تعالى مجده لمخلوقاته ( الزمان والمكان) وهذا محال وواضح فساده عقلاً و يأباه الذوق العقائدي السليم , فإن الصواب في الاحتمال الثاني , وهو الواسطة الضرورية التي لا يمكن تحقق أو تصوّر تكليم الله للناس وحسابهم دونها , وعلى هذا فإن المهدي عليه الصلاة والسلام ليس من ضرورات الإسلام فحسب, بل هو ضرورة وجودية لا يمكن تحقق أو تصور العدل الشامل في الدنيا والآخرة دونها.
آية أخرى
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ..)[6]
ولما دلت البراهين القاطعة على استحالة ظهور ذات الله المطلقة بصورة مباشرة واستحالة تكليمه إياهم جهراً , فإن الآية تشير بالتبع إلى القائم بأمر الله (المهدي) عليه الصلاة والسلام , ويمكن بيان معنى الآية ببساطة بالصورة التالية:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ –القائم بأمري - وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ..)
فالآية فيها مضاف محذوف تقديره القائم بأمري , وهناك آيات كثيرة من هذا النوع , تشير بالتبع إلى الواسطة الضرورية لظهور الله وتكليمه للناس ومحاسبته إياهم , ولما كان المهدي هو المصمم من قبل السماء لأداء مهمة العدالة الشاملة في الأرض , فأنه هو ذاته الذي يتولاها في الآخرة ولا أحد غيره.
المهدي مظهر لجمال الله
قال تعالى مجده: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[7]
زمان الآية يشير إلى يوم القيامة وبالتحديد ساعة الحساب , ناضرة من النضرة والنضارة , الوجوه الناضرة هي المبتهجة بالبشارة والسرور, وهي بلا شك وجوه أصحاب الجنة , وما يهمنا هنا هو بيان قوله تعالى (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ), ولقد اختلف القوم بشأن تفسير هذه الآية الشريفة ,لا مجال هنا لذكر ما قالوا, ولكننا نتفق مع القائلين باستحالة رؤية ذات الله تعالى مجده , فكما أشرنا من قبل إلى أن البراهين –الكثيرة- القاطعة تؤكد أن رؤية الله ومشاهدته كما مشاهدة المحسوسات محالة قطعاً , لأنه جل شأنه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )[8] و (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[9] فهو ليس بجسم محدد كي تكون مشاهدته ممكنة, كما أن رؤية الله تعني الإحاطة به وهذا محال كما هو بيّن.
والسؤال هو: إذا كانت مشاهدة ذات الله جل شأنه محالة فما معنى النظر المشار إليه في الآية ؟
للجواب نقول: إن النظر إلى الله لا يعني بالضرورة النظر المباشر لذاته تعالى مجده, بل بواسطة المرآة التي يتجلّى فيها, أي بواسطة خليفة الله التام الكامل ( المهدي) الذي تتجلى فيه كل هوية الله الوجودية , فهو الذي بواسطته يحاسب الله الناس أجمعين ويكلمهم يوم الحساب ويختصمون بين يديه , فكما الوقوف أمام القائم بأمر الله يعني الوقوف أمام الله , كذلك النظر إليه عليه الصلاة والسلام يعني النظر إلى الله بواسطة المرآة التي يظهر فيها , أي كما ترى عدل الله يتجلّي في القائم بأمره كذلك ترى جمال الله ظاهر فيه , فالنظر إلى القائم بأمر الله هو النظر إلى الرب , فأنت – على سبيل المثال-حينما تنظر إلى المرآة ترى الصورة المنعكسة وما أرتسم فيها من ملامح دونما ظهور المنظور مباشرة أمامك, فكما المرآة هي الواسطة التي نقلت لك صورة المنظور , كذلك النظر إلى الله يوم القيامة لا يكون مباشر إلى ذاته جل شأنه بل بواسطة خليفة الله الكامل الذي تتجلى فيه كل هوية الله الوجودية .
ومن المعلوم ان الله تعالى مجده قد خلق الإنسان على صورته وجعله خليفته على الخلق, فالإنسان أياً كان خليفة الله ومظهر له في النشأة , فجميع الناس مرايا يتجلى الله فيها على قدر سعتها واستعدادها , انهم خلفاء لله يظهرون هوية الله على قدر استعدادهم ومرتبة كمالهم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)[10] بل الله تعالى مجده ظاهر في جميع الموجودات على حسب مرتبتها في النشأة, وأنت على سبيل المثال حينما ترى منظراً جميلاً أو امرأة جميلة أو زهرة جميلة أو طفلاً جميلاً , تكون قد رأيت جمال الله الظاهر في تلك المرايا , انها مرايا تعكس مقادير محددة من جمال الله , وحينما ترى شخصاً كريماً , تكون قد رأيت كرم الله المتجلي في ذلك الشخص , وإذا ما رأيت شخصاً رحيماً تكون قد رأيت رحمة الله الظاهرة في ذلك الشخص , وإذا ما رأيت شخصاً يبسط عدالة الله على الأرض تكون قد رأيت عدل الله في ذلك الشخص وهكذا ,فالله جل شأنه ظاهر في مرايا خلقه على حسب استعدادها ومرتبتها , و كلما كان استعدادها أكبر ومرتبتها ارفع كلما ظهرت هويته الله فيها بصورة أكمل وأتم .
وهناك خصوصية يتفرد بها القائم بأمر الله دون غيره من بين جميع الناس وهي: انه عليه الصلاة والسلام خليفة الله الجامع لجميع الكمالات والمظهر التام لله تعالى مجده, فكما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين, كذلك القائم بأمر الله خاتم الخلفاء وسيد العالمين لأنه المظهر التام لله تعالى مجده والقائم بأمره الذي أوكلت إليه مهام إدارة شؤون الأرض وبسط عدل الله فيها.
ولما كان المهدي عليه الصلاة والسلام هو الذي يبسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض , فإنه بالتأكيد مصمم لتجلّي اسم الله العدل الحق في شخصه بصورة تامة, و بدون تجلى هذا الاسم بصورته التامة المطلقة فإن بسط العدالة الشاملة لا يمكن أن يتم بتمام كماله, فبسبب التجلي التام لأسماء الله ينهض المهدي بالمهمة التي صمم لأجلها في الدنيا والآخرة , وبهذا يكون هو خليفة الله التام الكامل ومظهر له , فالنظر إليه يعني النظر إلى الله تعالى مجده , وعلى حسب قاعدة حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد , فإنه كما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)[11] كذلك يمكن القول عن المهدي عليه الصلاة والسلام ( إن الذين ينظرون إليك إنما ينظرون إلى الله , جمال الله ظاهر في أعينهم).
فكما يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي يد الله , والذين يبايعونه إنما يبايعون الله ( وهذا لا يعني التجسيم والتشبيه) , كذلك شخص القائم بأمر الله هو هوية الله و الذين ينظرون إليه إنما ينظرون إلى الله .وهذا لا يعني أيضاً التجسيم والتشبيه .
ولما كانت مراتب الجمال في دائرة الإمكان تمتد من اللاجمال إلى كل الجمال , والكون مظهر للجميل التام المطلق تعالى مجده , فإن جميع مراتب الجمال يجب أن تظهر في النشأة في مقام الظاهر, ومن المحال أن تكون هناك مرتبة ناقصة , لأن ذلك يعني النقص في هوية الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً , وعلى هذا فإن مرتبة الجمال التام يجب أن تظهر في النشأة وتتجلى في الشخص المرشح لتجلي جميع أسماء وصفات وأفعال الله .
هوية المهدي من القرآن الكريم
المهدي فوق مقام العباد
القرآن الكريم يشير إلى هذه الخصوصية الفريدة التي أشرنا إليها منذ قليل في آية أخرى ويصرح بـ أن مقام القائم بأمر الله عليه الصلاة والسلام ليس كمقام أحد من الناس بل فوق مقام جميع العباد , وإليك النص.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي)[1]
سياق الآيات كما هو بيّن يشير إلى ظرف النشأة الأخرى وبالتحديد إلى ما بعد الانتهاء من حساب الناس, وليست النفس المطمئنة هي كل نفس إنسانية كما يقول البعض,حتى شاع كتابة هذه الآيات على شواهد القبور, بل النفس المطمئنة هي النفس الفانية المندكة في ذات الله فلا تظهر أنانيتها بل الظهور كل الظهور لله تعالى مجده ولهذا هي مطمئنة ( مطمئنة بجمال وكمال المطلق تعالى مجده) و هي نفس القائم بأمر الله (المهدي) , فهو عليه الصلاة والسلام -كما أشرنا مرات- خليفة الله الكامل ومرآة لظهور الله وباسط عدله, وهو الذي بواسطته يكلم الله الناس ويحاسبهم يوم القيامة .
 ورجوع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية إنما إشارة إلى إتمام المهمة التي أوكلت لهذه النفس على أتم ما يكون من الكفاءة بدليل رضا الله عنها , وتوصيفها بالراضية المرضية إنما لطف وتكريم خاص , فالنفس التي كانت مندكة في جمال وكمال الحق ومظهر له لا يمكن لها أن تسكن وتطمئن وترضى بمغادرة ساحة قدس وجمال المطلق عند الرجوع إلى مقام العبودية ما لم يكن هناك لطف خاص بها, فالحركة الانعطافية في الخطاب المذكور إنما هي من الله وإلى الله , قال (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) .
والدخول في عباد الله المذكور بقوله (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) إنما يشير إلى الرجوع إلى الحالة الإنسانية والدخول في مقام العبودية بعدما كانت هذه النفس المقدسة في مقام الفناء التام ومظهر لله والقائم بأمره, انتبه وتفكّر انه قال (فَادْخُلِي (فِي) عِبَادِي) ولم يقل (فأدخلي (مع) عبادي) , مما يعني بلا شك أن النفس قبل هذا النداء كانت في مقام فوق مقام العبودية , أي خارج دائرة العباد والنداء يدعوها إلى الدخول في تلك الدائرة , فأنت على سبيل المثال لا يستقيم كلامك إذا ما قلت لمن في دارك (أدخل في داري) بل تقول ذلك لمن هو خارج الدار, فالعبارة الأولى ينبغي ألا تصدر منك لمخاطبة مَنْ في دارك لأنها تنم عن قبح في البلاغة, والقرآن الكريم كما -هو بيّن -منزه عن ذلك بل من معجزاته البلاغة, فالنفس المطمئنة قبل هذا النداء كانت خارج دائرة العبودية , و في مقام الفناء التام ومندكة في ذات الله جل شأنه حيث كانت مرآة لظهور الله وإرادته في النشأة , وكان الله بواسطتها يظهر للناس ويحكم بينهم بالعدل ويعطي كل ذي حق حقه .
إياك أن تظن اننا نعني بمقام خارج دائرة العبودية أن النفس المقدسة تشارك الله في مقام الألوهية ( حاشا لله الواحد الأحد) , بل نعني بذلك فناء النفس بذات الله فناء تاماً تتجاوز عنده الأنا والإنية, فلا يكون لها من ذرة ظهور وأنانية, بل الظهور كله لله, ويمكن تشبيه هذا الأمر بالمرآة التي تعكس الصورة المرتسمة فيها , فالمرآة لا تُظهر نفسها بل تُظهر الصورة المرتسمة فيها ولا تشاركها الظهور ( الظهور كله للصورة وليس للمرآة) كذلك حال نفس-ذات- القائم بأمر الله, ليس لها من ظهور في ذاتها بل الظهور كله لله تعالى مجده .
فالنفس التي ترجع من مقام الفناء بالجمال والكمال المطلق لا تكون مطمئنة إلا بلطف وتكريم خاص, هل ترضى أن تفارق مقام الفناء بذات الجمال المطلق ؟؟ وهل تسكن وتطمئن نفسك دونما لطف خاص من ذي الجمال المطلق ؟؟
وأما قوله (وَادْخُلِي جَنَّتِي)فهو الخطاب الذي فيه التكريم الخاص والثواب الخاص, ولا يوجد له مثيل ولم يشر القرآن الكريم إلى ما يماثله إلا في هذه الآية فقد نسب الجنة إلى ضمير المخاطب أي إلى نفسه جل شأنه .
وكما أشرنا مرات إن كل إنسان خليفة الله , لكنه لا يظهر من سمات هويته الله إلا القدر المحدود , فبعض الناس يظهر كرم الله, وبعضهم يظهر جمال الله, و بعضهم يظهر إحسان ورحمة الله وهكذا , وأمام هذا النقص لا يمكن أن يصدق عنوان خلافة الله بالمعنى التام للخلافة, كما لا يصدق على الخلية الحية عنوان الخلافة إذا ما أظهرت من هوية الإنسان الرجلين أو الرأس فقط , أو الذراعين فقط , فهذا ظهور ناقص ومشوه للهوية .
ولما كان الله الكامل الحكيم منزه عن النقص والعيب , فإن ظهوره في النشأة يجب أن يكون كاملاً وعلى أتم الجمال والكمال , فهو القائل (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[2] أي إني جاعل في الأرض إنسان يحمل كل سمات هويتي الوجودية , فالخليفة التام الكامل لا بد أن يظهر في الأرض وهذا من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها مطلقاً ,لان عدمها ينسب إلى الله النقص والعيب وهو منزه عن ذلك كما هو معلوم وثابت .
وقد يظن البعض أن قوله (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) قد تحقق مصداقه بتمام كماله عند خلق آدم عليه السلام وبث الروح فيه, وهذا بعيد , إذ ليس بالضرورة أن يتحقق مصداق الهوية التامة( الخلافة) عند خلق آدم مباشرة بل يمكن أن تظهر سمات هوية الله في الإنسان( الخليفة) بالتدريج البطيء وعلى حسب سنة النمو والتكامل الجارية في النشأة , فكما هوية الشجرة لا تظهر مباشرة عند غرس البذرة في التراب إلا بعد أن تمر بمراحل النمو و التكامل حتى تصير شجرة تامة كاملة, كذلك عنوان الخلفية لم يتحقق بتمام كماله عند خلق آدم , بل آدم عليه السلام كان البذرة الأولى لشجرة الخلافة , والمهدي عليه الصلاة والسلام هو الشجرة الكاملة التامة, والثمرة التي تحمل كل سمات هوية الله الوجودية .
 وكما الثمرة التي تظهر في نهاية مراحل النضج التام هي التي تنقل هوية الشجرة إلى الجيل القادم [3], كذلك الخليفة الكامل التام ( المهدي) الذي يظهر في نهاية مراحل كمال النشأة (نهاية الزمان) هو الذي ينقل هوية الله التي تتجلى في شخصه إلى النشأة الأخرى ذات الديمومة البقاء.
ولما كان المهدي عليه الصلاة والسلام خليفة الله الكامل ,الذي أوكلت إليه أهم واخطر مهمة في تاريخ النشأة وهي تطهير الأرض من الشرك والظلم وبسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض , فإنه هو الخليفة التام الكامل الذي يصدق عليه عنوان خليفة الله , لأنه هو الذي تتجلى في كيانه هوية الله تجلياً تاماً ( جميع أسماء وصفات وأفعال الله) فيكون مصداقاً تاماً لظهور هوية الله في مقام الظاهر في الدنيا والآخرة.
خلاصة بحوث الباب الثالث
ليست تلك هي كل الآيات التي تشير-بالتبع- إلى المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام, بل هناك الكثير التي تتحدث عن دوره الفعال في كمال النشأة وبسط العدالة الشاملة فيها, ستجدها في فرص أخرى مخصصة لبيان أحداث آخر الزمان[4] والرجعة[5] التي سيكون للمهدي فيها الدور الأعظم الذي صمم لأجله.
 ولقد كنا نتساءل عن البراهين القاطعة التي تؤكد حقيقة المهدي المنتظر , الأمر الذي انتهينا فيه إلى نتيجة واحدة في جميع أبحاثنا سواء كانت النقلية عن تراثنا, أو الفلسفية, أو العلمية ,أو نصوص القرآن الكريم, و هي أن المهدي المنتظر من الحقائق الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها, ومسوغ الضرورة هو أنه مظهر لقانون عام شامل يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء. فكما تظهر هوية الموجودات بتمام كمالها في نهاية مراحل النمو والتكامل , كذلك هوية الله في مقام الظاهر يجب أن تظهر بتمام كمالها , ولا يمكن تصور غير ذلك .
 ولما كان الله مطلق وغير متناه , والإنسان خليفته ومظهر له في الأرض , فإن هوية الله في مقام الظاهر يجب أن تظهر في الإنسان الكامل بتمام كمالها , وعدم ظهور الإنسان الكامل التام الذي تتجلى في كيانه هوية الله بتمام كمالها, والاقتصار على تلك المظاهر المحددة ( النواقص) عند الناس حاملي الأمانة ( الهوية), يعني النقص في هوية الله تعالى مجده, وأن تلك النواقص هي كل هوية الله ولا شيء سواها , تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
 ولما كان الله كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل , وهو تعالى مجده ( الظاهر والباطن) فإن هويته الكاملة التامة يجب أن تظهر في النشأة بتمام كمالها في مقام الظاهر , وتتجلى في الإنسان الكامل الجامع لجميع الكمالات , ومن المحال تصوّر غير ذلك .
 ولما كان المهدي المنتظر هو المصمم من قبل السماء لأداء أهم وأخطر مهمة في تاريخ النشأة, فأنه هو الإنسان الكامل وخليفة الله التام الذي تتجلى في شخصه جميع سمات هوية الله الوجودية , وبالتالي هو مصداق لظهور الله المشار إليه في قوله تعالى مجده:
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[6]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[7]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[8]
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ*وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)[9]
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[10]
(كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً*وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)[11]
ونحو ذلك من الآيات .
وبكلمة واحدة نقول: كما لحظة نفخ الروح في آدم عليه السلام كانت لحظة جليلة استحقت سجود جميع الملائكة باعتبارها بداية ظهور الله في النشأة , كذلك لحظة ظهور خليفة الله الكامل التام ( المهدي) ستكون لحظة جليلة تستحق سجود جميع الملائكة, لأنها لحظة ظهور هوية الله بتمام كمالها غير منقوص منها شيء , وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها , فكما ظهر الله في مقام الأول (البداية) كذلك يظهر في مقام الآخر( النهاية).
============
هوامش الباب الثالث\3
[1] - سورة الفجر, الآية 21-22
[2] -سورة البقرة , الآية 174
2- سورة آل عمران , الآية 77
[4] - سورة ق , الآية 28
[5] - سورة الزمر , الآية31
[6] - سورة النحل , الآية 27
[7] - سورة القيامة , الآية 22-23
[8] - سورة الشورى , الآية 11
[9] - سورة الأنعام , الآية 103
[10] - سورة الأعراف, الآية 69
[11] - سورة الفتح, الآية 10
=================
هوامس الباب الثالث\4
[1] - سورة الفجر , الآية 27 -30
[2] - سورة البقرة , الآية 30
[3] - وهذا المثال ينطبق على النطفة التي تظهر عند النضج التام ,التي تنقل هوية الإنسان إلى الجيل القادم .
[4] - كتابنا ( القرآن يتحدث عن أحداث آخر الزمان) تحت الإعداد
[5] - كتابنا ( الرجعة ضرورة وجودية ) تحت الإعداد
[6] - سورة البقرة , الآية 210
[7] - سورة الأنعام , الآية 158
[8] - سورة النحل , الآية 33
[9] - سورة الشعراء , الآية 4-5
[10] - سورة القيامة , الآية 22-23
[11] - سورة الفجر, الآية 21-22
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة