فصل من كتاب سيصدر قريب
الشيعة في عالم متغير (1)
المثقف الشيعي في عين العاصفة
كــتــابــات - مركز التخطيط الشيعي


جذور الألم
نقصد بالمثقف منتج الأفكار، الذي يخلق ويؤسّس لرؤى وتصورات، المفكر، والفنان، والشاعر، والمخرج، والقاص، والسياسي الجاد، والناقد، والباحث، والصحفي، ولأننا لا نتقيد بتعريف جامد، ولأننا بفعل المنظور الحيوي للإسلام تجاه الحياة، نتعامل مع الواقع بمساحته العريضة، ولأننا جزء من هذا الكيان (البشري ـ العقدي) الذي أصطبغ بدم مباح على مدى زمن يستوعب مئات الأجيال لا لسبب منطقي، ولأننا جزء من كيان تشرَّب بروح محمّد (ص) المشرقة بجمال الإنسان، وبروح علي عليه السلام المفتونة بالعدل، وبروح السجاد المشتعلة بنور التسامح، وبروح الحسين المتألقة بمعاني التضحية من أجل القيم... لأننا جزء من كيان (بشري ـ عقدي) تمخّض عن معاناة علمية ودموية وفكرية وسياسية وأخلاقية... ولأن منطق العلم الاجتماعي يتجاوز التعريف المحدود، التعريف الجامد... بسبب كل هذه المقتربات نمدّ بمصطلح المثقف الشيعي ليشمل كل شيعي يحمل رؤية، شريطة عدم اصطدامها بثوابت الدين الحنيف، وعدم انطوائها على نزعة تكفيرية عدوانية، فإننا جزء من التاريخ العام للإنسانية، لا ندعي أسبقية على أحد، كما هي فلسفة التكفيريين، الذين حصروا حق الحياة بآحاد من البشر. ولا نكتم حقيقة نفتخر بها، ذلك أن المسلم الشيعي تميّز بالإبداع، قراءة للواقع الفكري والثقافي والفني في العراق ولبنان وسوريا والبحرين والكويت تبدي هذه الحقيقة ساطعة.
المثقف الشيعي ينتمي إلى هذا الكيان (البشري ـ العقدي) بشكل عام، ملتحم بالعالم في ضوء قيم السماء كما هي منظومة في أسفارنا المقدسة ـ القرآن وسنة أهل البيت ـ، يتعامل مع الآخر بميزان الأخوة في الدين أو النظارة في الخلق كما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.
هذا المثقف ـ وبلا تفصيل ـ عانى من القمع، عانى من التهميش، عانى من الرفض، ليس لسبب منطقي سوى هذا الانتماء، سوى هذا التاريخ الموروث الذي نعتبره رحمة، هذا القمع ليس بدعا في زمن الحكومات الوطنية، بل هو وريث تاريخ معقد، تاريخ ممتّد، يبدأ منذ لحظة الوجد على فراق الرسول الكريم وحتى هذه اللحظة، وذلك كجزء من عملية حذف مستمرة، لن تقف لحظة واحدة، أما بالقوة أو بالفعل، مختمر في المخفي من ذات الآخر (الأخ العَقَدِي)، يظهر ويشتد في أي مفارقة زمنية تخالف المألوف عبر هذا التاريخ الذي يسمونه تاريخ الإسلام.
هذا المثقف الشيعي يعيش مستويات مخيفة من الغربة، من الاستلاب، من العزلة الداخلية، من القهر الخفي... كان وما زال غريبا عن السلطة، يخافها، يخشى سطوتها، يخشى شرطها، أوراقها، دروبها، ينتمي إليها وفي داخله هاجس الطرد، هاجس القتل، هاجس المراقبة، فهو شيعي.
هذا المثقف الشيعي عانى غربة قاسية في ظل فهم خاطئ لمعنى الدين الحنيف، بسببه أهمل، وضيِّع، وغيِّب، لأنّه يقول شعراً وهو ممِّا يُلْهي، ولأنّه يحمل في يده فرشاة يخطِّط بها على الخامات الميتة تقاسيم الأحياء وذاك مشكل، ولأنّه يخرج على المسرح يلوِّح بشخصية (منسوخة) وتلك كذبة، ولأنه يمارس الدعوة إلى الحرية وتلك لعبة شيطانية لا ندري مصيرها... فكان المثقف الشيعي نهبا لذاك اليسار وذاك اليمين.
هذا المثقف الشيعي ـ بشكل عام ـ مجموعة نقاط تفصل بينها مسافات من التردد والقلق والحيرة والتمزّق والتشرذم، فإمَّا يضحِّي بالحياة الساخنة بالحضور الحي، الحضور ذي الفاعلية في توجيه التاريخ، يركن إلى النسيان، نسيان التاريخ، وإمَّا ينتمي إلى دوائر التضحية الصارخة، التضحية من أجل التضحية، وإمّا ينساق مع تيار الحياة الكسولة، وإمّا يتحول إلى مثقف سلطة تنتقم من أهله وطائفته قبل أن تنتقم من أعدائها في الشرق أو الغرب إن كان لها عدو هنا وهناك.
ويبقى انتماؤه لطائفته مجرد عنوان، رغم أنّ هذا العنوان هو سبب المأساة.
تتميّز غربة المثقف الشيعي بطابع التغطية الشمولية لكل أبعاد قدره الوجودي، من علاقته بذاته المنكسرة بين يدي مصادرة سابقة محكوم عليها بالثبات مهما كانت الأدلة المضادة قوية دامغة، ومن علاقته بتاريخ حاقد مشوّه مكذوب يقرأه رغماً عنه، ومن علاقته بسلطة نافية قاهرة، ومن علاقته ببعض رموزه الروحية التي نسته وتجاهلته عن قصد أو عن جهل.
إنّها مجرّد بداية
وفي هذه الأيام حيث تهاوت الحدود بين الثقافات، وحيث يستعر المشهد الإنساني بالخبر من أقصى المعمورة إلى أقصاها، وحيث تجتاح ثقافة الفرد العالم، وحيث تضج الحناجر البشرية بأنشودة الديمقراطية، وحيث تتناوب الأفكار لتكسح بلادة دكتاتورية الأفكار والحكم والتسيُّد الموروث، وحيث تنتشر ثقافة السوق الحر... في هذه الأيام ينتبه المثقف الشيعي إلى ذاته، ينتبه إلى حقه بالحياة، وحقه بالصوت الذي يعبر عن هذه الذات. وللحقيقة والتاريخ، وبالتفاعل مع هذه الحركة الكونية الهائلة، كان لعلمائنا الكبار دور رائد في تحفيز هذه الذات الجريحة، لكي تدخل ساحة التاريخ بوعي وبصيرة.
فإن الدعوة إلى التحرر والحرية، وتكريس مبدأ الانتخابات، والتوكيد على وحدة الأوطان، وتأسيس مبدأ الأخوة الدينية، والوقوف في وجه الطغيان المادي، ونشر ثقافة التسامح، ورفض الحكم الفردي المتسلِّط... إن هذه الثقافة العريضة التي تبناها علماؤنا الكبار، خاصة في العراق في ظل هذا التحول الكبير... هذه الثقافة بالتفاعل مع حصيلة التطورات العالمية على صعيد السياسة والفكر والفن كان لها أثر كبير على تحفيز هذه الذات الكسيرة، نقصد المثقف الشيعي، لتنخرط في ساحات الموقف الأصيل، الموقف الذي لا يفرط بالذات، ولا يفرط بالتاريخ، ولا يفرط بالانتماء الروحي.
بدأ يفكر بذاته، ذاته الموضوعية، بدأ يراجع محنته، بدأ يتساءل عن سبب محنته، عن سبب معاملته مواطنا من الدرجة الثانية، بدأ يجول بنظره في حزام البؤس في مدينة بيروت، في تلك ألأكواخ البائسة في جنوب لبنان، بدأ يجول بنظره في أحياء مدينة الصدر (الثورة) في بغداد، بدأ يقرأ أحياءه الطينية في البحرين، بدأ يتساءل عن سبب فقره المدقع في السعودية وهو إبن المنطقة النفطية.
بداية...
ولكن ليس كل بداية موفقة حتى وإن سطعت، حتى وإن شرعت تفرض نفسها بقوة، فإن حركة التاريخ ليست عشوائية، وبدون رعاية للبدايات الواعدة تٌقتل في مهدها.
إستراتيجيَّة التسميات النافية
بداية.. بداية تشتعل بالوعد، وبدون هذا الكسر يبقى المثقف الشيعي في عزلة من داخله وخارجه، لقد كان لهذا الاغتراب ثمنه الباهظ.
لم يكن يعاني من الاغتراب لأنَّه لا يملك شيئا، فقد يملك أشياء، قد يكون من أغنياء الخليج وأثرياء باكستان. لم يكن يعاني من الاغتراب لأنه أنتزع من ملكه عنوة، قد يكون مالك عقار ودثار من الدرجة الأولى، يتصرف بماله وثراءه وغناه كما يريد. لم يكن هذا الاغتراب بسبب افتقاده للحرية الشخصية، فقد يكون حرا، يمرح ويسرح، يأكل كما يريد، ويلبس ما يحلو له كما هو الآخر، وربما يفكر كما يعتقد ويرى، ولم يكن يعاني من الاغتراب لاعتبارات تتصل بمنحى العالم المادي وتقنياته التي راحت تبتلع البشر...
اغتراب المثقف الشيعي يأتي من إخضاعه لإستراتيجية من التسميات المُختارة بعناية، هذه التسميات مُختارة بدقة، هناك صياغة لهذه التسميات مستلة من تقدير لقيمة التاريخ، ودراسة دقيقة لقيمة الحضارة، وأهمية الانتماء، ودور الزمن، تسميات تتواصل وشائجها مع أعز شي على الإنسان، تلك هي عقيدته، وتلك هي وطنيته، وتلك هي شرفه، وتلك هي دوره في صناعة الواقع الحي، الواقع المشرق...
هذه التسميات رُسم لها مسار يتعدى المحسوس في أهدافه، في غاياته البعيدة، يهدف إلى إلغاء المُسمَّى من الجذور، من الأصل، تسنُّ قانون استباحته القصوى، في نفسه، وفي عياله، وفي ماله، وفي حريته، وأخيرا في مدى صلاحيته للوجود.
تُرى ما الذي يكمن وراء هذه التسمية المخيفة؟.
نقصد الرافضة...
يظهر للوهلة الأولى أن هذه التسمية لا تتعدى رفض خلافة الشيخين، أو لا تتعدَّى الموقف السلبي من هذه الخلافة، في حين أن التسمية تتعدّى ذلك بكثير، ذلك أن خلافة الشيخين بتصور أصحاب التسمية تجسِّد الإسلام بكل تفاصيله، تجسد الدين بكل صفائه، هي مرحلة النموذج، مرحلة الإحالة، وبهذا فإن الموقف الرافض لهذه الخلافة يعني نفي الإسلام، نفي التجربة الأمينة على التطبيق، وبذلك فإن هؤلاء (الرافضة) يجب حذفهم للحفاظ على الإسلام، للحفاظ على التاريخ (المقدس)، فالشيعة (رافضة) من هذه الجهة، وبسببها يجب (رفضهم)، يجب إلغاؤهم تماما.
هذه هي الخلفية البعيدة لهذه التسمية، وهي تسمية تحريضية، تهدف لغايات سياسية بعيدة، ليست عقدية، عقدية في الظاهر، سياسية في الباطن، فليس غريبا أن تتسلط السيوف على رقاب الشيعة بحجة الرافضة، لان الرفض يستبطن رفضا آخر، رفض مدروس بعناية.
تُرى ما ذا يكمن خلف التسمية الأخرى؟.
أحفاد ابن العلقمي...
لقد اتَّسع نطاق هذه التسمية في الأيام الأخيرة، كان صدام حسين حريصا على إشاعتها في أدبياته وهو يمضي مجازره بالشيعة المسالمين، بدون رحمة، بدون شفقة، وقد تم تصعيدها في الأيام الأخيرة بسبب التغيير الكبير الذي حصل في العراق، وقد تحوَّلت هذه التسمية في الأيام الأخيرة إلى مصطلح يُراد من ورائه تشويه طائفة معينة، هم الشيعة. ولكن السؤال الذي ينبغي الإجابة عليه هو الهدف البعيد من التسمية، ما هو المقصود الخفي؟ ما هو الغاطس من وراء هذه التسمية؟ لم تعد التسميات مجرّد عناوين عريضة، هي بناء داخلي أكثر من كونه صياغة خارجية عابرة، ويجب على الشيعة تفكيك هذه التسميات الدقيقة.
التسمية تهدف إلى التخوين الوطني الدائم، فنحن لسنا وطنيين، خونة التراب الذي أُنبتنا فيه، خونة الهواء الذي نتنسم نسماته، خونة الماء الذي يروي عطشنا... وبالتالي، نستحق النفي الدائم، نستحق الموت، نستحق الطرد، لا يليق بنا وطن، ولا نليق بوطن، هناك غاية خفية، غاية سياسية كبيرة، تتجسد بتشريع قتلنا، كلنا، بلا استثناء، بلا علامة فارقة، لان علامتنا الفارقة هي الخيانة الوطنية، نتوارثها أبا عن جد، وبالتالي، نحن محكوم علينا بالقتل والطرد قبل أن نأتي إلى الدنيا.
هذه التسمية التي ينقضها التاريخ بوضوح، التي تخالف حقائق التاريخ، هذه التسمية مكملة للتسمية السابقة، السابقة تنطلق من نقطة دينية، تنطلق من مقياس ديني، من مقياس طهوري مقدس، يتصل بالسماء، فيما التسمية الجديدة تتصل بالأرض، تنطلق من مقياس مادي، من هم يومي، يتصل بهموم الشعوب، بمصير الشعوب، وإذا كانت التسمية الأولى تبيح الذبح عقديا فأن الثانية تبيحه سياسيا.
نحن أحفاد العلقمي، فماذا ننتظر إذن؟ ننتظر أحكام الإعدام والطرد والتشريد والسجون والعزلة والبراءة، لأن الخيانة الوطنية لا يعادلها جزاء إلا ّ الموت.
هذه التسمية الباطلة لم يشفع برفعها من قاموس الشيعة تضحيات الشيعة لمئات السنين! فلم يجر عليها قلم المساءلة فضلا عن قلم النفي رغم أننا نحن الذين حاربنا الانكليز، ونحن الذين اقترحنا مشروع الملك العربي الهاشمي للعراق، ونحن الذين حررنا جنوب لبنان، ونحن الذين حاربنا صدام حسين.
فهي إذن تسمية مُصاغة للحكم على الزمن من دون اعتبار لكل حقيقة، حتى لو كانت بحجم ما قدمنا من دم، وبحجم ما خدمنا الأمة و الدين الحنيف الذي هو عزنا وشرفنا.
- هل انتهت إلى الآن مخططات التسمية النافية؟
- لا.
- إنَّهم الشيعة... أولاد المتعة.
المتعة حرام في فقه الأخوة السنة، ليست زواجا، لقد نسخت وحرِّمت وعدّت من الأحكام المنسوخة التي لا تتفق وأغراض الشريعة السمحة.
هذه التسمية تطعن أعز ما يملكه الإنسان، ذلك هو الشرف ! المتعة (زنا !)، ولكي نجلِّي عمق التسمية ينبغي أن نذكر أن المتعة زواج شرعي عند الشيعة، وهي حالة نادرة بطبيعة الحال، لا نريد هنا محاكمة هذا اللون من الزواج في ضوء الاستدلال الشرعي، فلذلك مجاله، وقد أُشبع بحثا، بل نريد تسليط الضوء على جوهر التسمية، المخفي في داخل شبكتها الدقيقة، فإنَّ وضع هذه التسمية على نحو العموم، وبلغة العنوان التعريفي... هذه العملية تنم عن اتجاه عدواني، استفزازي، تنم عن مشروع خطير، يهدف التشويه، والتحفيز المضاد، يهدف العزل، الطرد المعنوي... عمل يهدف تبرئة الدم الطاهر من الجسد الشيعي، الجسد الشيعي هجين، الجسد الشيعي مشوب، جسد لعين، جسد ملوث، لا ينفع معه دواء، يجب أن يخرج من دائرة الجسد المسلم.
إذن هناك تسمية نافية على أكثر من مستوى، مستويات تتكامل مع بعضها لتشكل حالة من النفي الشامل لهذا الشيعي، نفي عقدي، نفي وطني، نفي أخلاقي...
هذا النفي المعنوي الشامل يجد له استحقاقات ملموسة على الصعيد العملي، فالصلاة خلف الشيعي لا تجوز، ولا تجوز الصلاة عليه، لأن الصلاة أمانة، والشيعي غير جدير بهذه الأمانة، ولا يستحق تكريم السماء، الصلاة رمز المسلم، رمز الانتماء، هي الفاصل بين الإيمان و الكفر، هذا نفي قاس، نفي مدروس، نفي عملي ملموس.
ومن ثم تسمية أخرى لا تقل قسوة وجرحاً في الأعماق والشعور والانتماء، ذلك نحن (سبأية)، أتباع ذلك اليهودي الخرافي اللعين، نحن صناعة يهودية قديمة، امتداد لمؤامرة قذرة هدفت تهديم الإسلام، لا تشفع لنا صلاتنا، ولا صيامنا، ولا شهادتنا الإسلامية. وكلنا يعرف مدى الاستحقاقات التي تترتب على هذه التسمية، وهي تسمية مسجَّلة في كتب الأخ (النظير)، الكتب التاريخية، والكتب المذهبية، والكتب الأدبية، والكتب السجالية، فكيف تصح صلاته ورائي؟ وكيف يحق لي أن أتزوج من نظيري في الدين والتاريخ؟ تلك مشكلة فقهية بل عقدية!
الجذور اليهودية للتشيع في زعم هؤلاء المفترين تمتد إلى بداية التاريخ (الإسلامي)، هناك، لم يكن حديثا، فالخلل في الجسم المسلم كان قديما، كان من البدايات الأولى مخترقاً، أخترقه اليهود، وكنا أداة الاختراق، فأي كارثة هذه حلّت في الإسلام والمسلمين.
هذه التسمية ما تزال حديث المنابر والمجالس الخفية والعلنية، تدخل في الحوار على صعيد النشأة، وعلى صعيد الفقه، وعلى صعيد مجريات التاريخ، وعلى صعيد بنية العقيدة.
بل هذه الكتلة البشرية الكبيرة من المسلمين أتعس من اليهود والنصارى، فهؤلاء لم يبدلوا دينهم في حين نحن بدلنا ديننا!.
شيعة العراق غرباء ليس على الوطن فحسب في سياق كونهم أحفاد إبن العلقمي (تلك الخرافة التاريخية المزعومة لأغراض سياسية)، بل غرباء على الأرض، غرباء على الجغرافية، ألم نكن سوقة الفتوحات الإسلامية من الهند والسند؟ ألم نكن وافدين من بلاد فارس؟ ألم نكن شتات من هنا وهناك؟.
هذه التسمية الخرافية التي جئ بها للتغطية على الأصول غير العربية لقطاعات واسعة من الأخوة في الدين والعقيدة، هذه التسمية تهدف إلى طردنا، حرماننا من تراب العراق الذي رويناه بدمائنا، الذي قاتلنا في سبيل تحريره من دنس الانكليز، من دنس المحتل، يوم كان الآخرون يقتاتون على موائده الدسمة.
نحن (متاولة)!
مصطلح غريب النشأة وغريب النحت، لم نجد مادّته في القاموس العربي، صنع لأجل غايات سياسية بغيضة.
هذه التسميات:
1 : الرافضة، الذين يرفضون بيعة الشيخين، يرفضون زمنهما المقدس، زمنهما المسجِّل في السماء كـ (مثل) أعلى للحياة والسلوك والأمل.
2 : السبأية، أتباع المخرب اليهودي الكبير عبد الله بن سبأ، بل من مختلقاته وإبداعه اليهودي التخريبي القاصد، نحن نتوء في جسم أمة المصطفى سلام الله عليه.
3 : أحفاد إبن العلقمي، ذلك الذي خان الوطن، الذي باع العراق للمغول!.
4 : نسل زواج المتعة، ذلك الزواج الباطل شرعا.
هي تسميات تهميش، بل تسميات طرد من حومة الدين، بل هي إخراج في بعض معانيها ومضامينها من دائرة الحس الأخلاقي النبيل. هي تسميات مرسومة، تسميات مختارة للتربية، ومختارة لرسم موقف نهائي من الشيعة، لا تمحو عارها صلاة ولا صوم، لا يمحو عارها جهاد ولا تضحية، لا يمحو عارها عطاء ودفاع عن الدين بالمال والنفس والعلم.
أليست هي إذن عملية نفي أبدي؟.
 يستكمل النفي هذا دائرته بتحريم ذبيحة الشيعي، تحريم أكلها، ذلك أن اللحم يبني الجسم، يشدُّ العظم، وليس من الصحيح أن يدخل اللحم المذبوح على يد المسلم الشيعي داخل الجسد السني كي لا يلوث الدم الطاهر، لا يدنس الجسد الطاهر.
القاضي عبد القاهر البغدادي في كتابه السيئ الصيت (الفرق بين الفرق) يحرم زواج السني من شيعية، وزواج شيعي من سنية.
أليست هي عملية نفي كاملة؟.
عمليات الذبح الجماعي في شيعة آل محمد مستمرة منذ مجزرة الحسين حتى هذه اللحظة، لم تقف يوما، لم تسترح أبدا، في عهد بني أمية، في عهد بني العباس، في العهد العثماني، في العهد المملوكي، في زمن ما يسمى الحكومات الوطنية.
لم تكن مجازر طالبان في شيعة شمال أفغانستان مستحدثة، كان لها تاريخ، ولم تكن مجازر صدام في شيعة الجنوب العراقي مستحدثة، بل هي امتداد لمجازر الشيعة على يد الحجاج، ولم تكن مجازر الشيعة في بلاد الشام مستحدثة، ليست صنيعة تلك الفتوى الرهيبة (ومن لم يحكم بكفرهم فهو كافر)، بل هي خلاصة على طريق تاريخ أسود، ينبع من فلسفة النفي المطلق لهذه الكتلة البشرية المسلمة، هي عملية تنفيذ عملي لتلكم التسميات الخبيثة القاسية النافية، عملية وفاء لتلك التسميات المنحوتة في متن (العقيدة).
 المثقف الشيعي نصيبه أوفر من هذا النفي، أوفر من غيره من الشيعة، لأنه ينتج أفكار، لأنه يصدر في لوحته من نزعة شيعية متغلغلة في الأعماق، يصدر في قصيدته من خزين شيعي مترسِّب في قاعه اللاشعوري، يصدر من تمثيله على المسرح من إيحاء هذه التجربة الغنية بالفكر والدم المباح والعطاء والبذل، يصدر من معماره الرائع من وحي كربلاء، من وحي تلك القباب الذهبية الساطعة بالحضور الأبدي، يصدر من سياسته من تلك المسيرة المتكاملة، سيرة أفذاذ يكمل بعضهم بعضا... هناك تعمل تجربة علي، غليان نهج البلاغة، هناك تعمل جماليات الصحيفة السجادية، هناك يعمل نداء زيد بن علي، هناك تعمل أخلاق الأمام الكاظم، هناك يعمل الموقف الرائع لشيعة علي يوم قرروا حقن دماء المسلمين من غول المغول، فكان المغول فيما بعد فاتحين إسلاميين، ينشرون رسالة محمد في الأصقاع الصعبة، هناك يعمل صدى ثورة العشرين، هناك يعمل إصرار الإمام الحسين.
المثقف الشيعي نصيبه من هذه التسميات على صعيد تطبيقي أكبر من الباقين، لان تجربة التشيع الرائدة تعمل في أعماقه أ كثر من غيره، فكان نصيبه من الإعدامات والفقر والطرد والتهميش ما لا تستوعبه مجلّدات... نعم مجلّدات.
أليس هناك مقاتل الطالبيين؟.
وهو مجرّد لمحات.
مجرد لمحات...
ما هو الموقف المطلوب من عملية النفي هذه؟.
هل نمارس الضد النوعي؟.
هل نمارس عملية النفي ذاتها بالاتجاه المعاكس؟.
هل تسمح لنا بذلك هوية التشيع الجميل؟.
إن الموقف الجوهري لا يتجسّد باستهجان هذه التسميات، بتسخيفها، ولا نكتفي بالرد عليها وتفنيدها، بل بخلق ثقافة جديدة، ثقافة واعية، يتحمل مسؤوليتها المثقف الشيعي بمباركة العلماء الأعلام.
ترى ما هي معالم هذه الثقافة؟.
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة