مستقبل الهوية ومصيرها
بحث في النفس الإنسانية في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات
الحلقة الرابعة
كتابات - زهير الأسدي
 

تعويض النقص حركة أصيلة في الكون
لما كان الإنسان يولد صغيراً من الناحية المادية الجسدية بالمقارنة مع الكبار, وفقيراً جداً من الناحية المعنوية , بلا معلومات عن ذاته وعن الحياة بالمقارنة مع الكبار , فإنه بلا شك مفطور على النقص , وهذا شيء أصيل في هويته الوجودية , وما نراه من حركة نحو النمو والتكامل في عالمي المادة (جسده) والمعنى ( عقله) إنما بدافع تعويض النقص الذي بدأ منه الإنسان, فالكمال ببساطة يعني تجاوز النقص عن طريق استحصال المكملات الضرورية .
ولما كان كل شيء في الكون ينمو ويتكامل , النبات ,الحيوان , الإنسان, بل حتى الجماد , حيث تتحول مادة الأرض إلى نبات و إلى حيوان وبالتالي إلى إنسان , فإن حركة النمو والتكامل حركة أصيلة في الوجود ,وهي منتزعة من هوية الخالق العظيم , المتحرك بذاته والمحرك لغيرة, فقوة الله الغني الحميد هي التي تؤثر على الموجودات وتجعلها تنجذب إليها فتكتمل شيئاً فشيئاً حتى تلاقيه في مراتب الكمال في نهاية المطاف (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيه) (الإنشقاق6)
ولو دققنا في حركة نمو وتكامل كل موجود نجد أنه حركة تعويض للنقص الذي يعانيه, فالرغبة في تعويض النقص هي الأصل الوجودي المخلوق الذي يقابل الأصل الوجودي الخالق , فبمجرد أن يندفع الموجود للوجود يجد نفسه ناقصاً وفقيراً أمام كمال الخالق العظيم الذي لا يسلك النقص والمحدودية إليه من سبيل , فيتحرك تلقائياً بقصوره الذاتي نحو جهة الكمال .
ولما كانت رغبة تعويض النقص أصيلة في الوجود بدليل حركة النمو والتكامل الجارية على جميع عناصره دونما استثناء, والإنسان جزء من الوجود , فإن المحرك الأساسي والأصيل لجميع حركات وسكنات الإنسان هو القصور الذاتي , أي الإحساس بالنقص في عالمي المادة والمعنى على السواء , فالذي يجعل الجسد ينمو ويتكامل هو أن هناك هوية تامة كاملة ( هوية الله تعالى مجده ) مركوزة في صميم فطرة الإنسان , ذاكرة وجودية في الجينات, حينما تجد نفسها في وضع ناقص تحاول أن تعوض نقصها بالحركة نحو الهوية المثالية التي تتحرك نحوها , فتنجذب بقصورها الذاتي كما تنجذب الأجرام السماوية نحو الكتل الأكبر منها .
والذي يجعل النفس الإنسانية تنمو وتتكامل ,هو شعورها بالنقص أمام المثال الوجودي الذي جاءت منه ( الله) فتحاول ان تعوض نقصها بالتحرك نحوه . وهذه الحركة إنما قصور ذاتي أمام عظمة الخالق تعالى مجده الذي أعطاها هويته ( نفخت فيه من روحي).
فكما يوجد سالب وموجب ,أول وآخر , ظاهر وباطن , كذلك يوجد كامل وناقص , وهذا هو سر الحركة في الكون , الناقص يتحرك بقصوره الذاتي نحو الكامل وكلما أقترب منه كمل حتى يلاقيه . فالنفس الإنسانية التي تولد في غاية النقص والفقر إنما تتحرك بقصورها الذاتي نحو جهة كاملة, لها معها سمات مشتركة ,لأن هويتها منتزعه من تلك الجهة التي تتحرك صوبها .
حركة تعويض النقص
على ضوء ما سبق فإن تفسير جميع مظاهر سلوك الإنسان الموجب والسالب على السواء يكمن في الإحساس بالنقص, فالدافع الذي يجعل الإنسان يلجأ إلى الله في ممارسة العبادة, هو شعوره بالنقص أمام عظمته تعالى مجده فيريد ان يعوض نواقصه بالاقتراب من الكامل الذي يمنح للإنسان ما ينقصه , وهذه هي الحركة الطبيعية الأصيلة في الكون ( كل قد علم صلاته وتسبيحه).
والذي يقرأ الكتب لاكتساب العلم والمعرفة ويبذل الجهود والإمكانيات لأجلها , إنما لتكميل ما ينقصه من علم ومعرفة, ولا تتوقف هذه الرغبة طوال حياة الإنسان حتى يموت , لأنه ببساطة كلما اكتسب علماً وحقق ما كان يصبوا إليه في فترة ما , كلما شعر بالحاجة إلى المزيد, ولعل السبب في ذلك ان نفسه الباطنة المرتبطة بالله الكامل سببياً وتكوينيا , تبقى تشعر بالنقص دون أن يعلم ظاهره بذلك , هي تستشعر كمال الله بالفطرة وبالصميم فتنجذب نحوه دونما مقاومه , وهذا هو الشعور الخفي الذي لا يستطيع البعض تفسيره في العادة, انه انجذاب نحو الله الكامل .
والذي يرغب في جمع المال ولا يتوقف عن جمعه حتى وإن ملك الملايين والمليارات, إنما لشعوره بالنقص أمام الغني الحميد بالمطلق , فهو مهما ملك من مال يبقى يشعر في قرار نفسه بالنقص أمام غنى الله , فتنجذب نفسه الباطنة نحو الغني الحميد , وهذا الانجذاب هو الرغبة في جمع المال التي لا تتوقف حتى يؤمن بالقناعة أو يلاقي الغني الحميد .
والذي يرغب في السعادة في الجمال لا يتوقف عن البحث عنه مهما ظفر بمظاهره وتشبعت نفسه به , وكلما استحصل على سعادة جمالية كلما بحث عن مظاهر اخرى اكثر كمالاً ولا تنتهي رغبته إلا بالموت ,لأن ببساطة يبحث عن جمال كامل مطلق بلا نواقص تستشعره نفسه الباطنة بالفطرة وتتحرك صوبه . وهكذا حال جميع رغبات وسلوكيات الإنسان , انها بدافع من الإحساس بالنقص وحركة نحو الكامل المطلق .
وبعبارة واحدة نقول: إن السبب الذي يجعل الموجودات تنمو وتتكامل هو قصورها الذاتي ( إحساسها بالنقص) فالكامل التام لا يكمل وإذا كمل فإن ذلك يعني أنه لم يكن كاملاً من قبل, وإنما الذي ينمو ويتكامل الفقير الناقص الذي يتحرك بقصوره الذاتي نحو جهة الكمال , فمادة الأرض مثلاً ناقصة وهي تعلم بذلك ( كلم قد علم وتسبيحه) فتتحرك لأجل ان تحقق كمالها , فتمر بمراحل تتحول فيها إلى نبات ,ومن ثم إلى حيوان, ومن ثم إلى نطفة ( التي هي حصيلة المواد الغذائية النباتية والحيوانية) والنطفة تتحول إلى إنسان , والإنسان الناقص يتحرك نحو الله حتى يلاقيه ويحقق كماله , وحينما يتحقق اللقاء مع الله في النشأة والآخرة يتحقق كمال الإنسان فلا نمو ولا تكامل حينئذ , لأنه قد بلغ ذروة الكمال الذي ليس من بعده مرتبة كي يتحرك صوبها , وهذا هو سر الخلود والحياة الأبدية التي ليس فيها موت . فالشعور بالنقص هو السبب في كل حركة وكل سلوك في الوجود من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أو اكبر , الكل يتحرك نحو لقاء الله الكامل التام .
السالب والموجب كلاهما من وإلى الله
قد يسأل سائل ويقول : إذا كان الشعور بالنقص هو الدافع الأصيل لجميع الموجودات الذي يجعلها تتحرك نحو الله الكامل التام في سبيل تحقيق كمالها , فإن هذا يعني أنها جميعاً موجبة ويفترض ان تكون جميع مظاهر الكون موجبة, مثل الإيمان , الخير, المحبة ,الجمال , اللذة السعادة ..الخ, فما السر في الحركة السالبة المعاكسة التي من مظاهرها ,الكفر, الشر, الحقد , القبح, الألم , الشقاء ..الخ ؟
أقول : ليست هوية الله موجبة فقط كي تكون الحركة صوبه موجبة محضة و حتمية, بل هوية الله قيم متقابلة -موجبة وسالبة- في آن , ولهذا نجد مظاهر الكون مفطورة على القيم المتقابلة ( عالم الغيب والشهادة, الزمان والمكان , النور والظلمات, الخير والشر, الإيمان والكفر, اللذة والألم , السالب والموجب , الذكر والأنثى , الحسنات والسيئات, وبالتالي الجنة أو النار )
نكرر ما قلنا في فصل سابق ونقول : إن الدليل على أن هوية الله قيم متقابلة هو قوله تعالى مجده الذي يصف لنا هويته الوجودية :
(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) (الحديد3)
فكما هو معلوم أن الأول والآخر والظاهر والباطن, قيم متقابلة تنزع منها جميع مظاهر المتقابلات في الوجود مثل عالم الغيب والشهادة, الزمان والمكان , النور والظلمات, الخير والشر, الإيمان والكفر, اللذة والألم , السالب والموجب , الذكر والأنثى , الحسنات والسيئات, الجنة أو النار , ونحو ذلك .
ولما كانت هوية الله قيم متقابلة يمكن اختزالها بالسالب والموجب , فإن كل من الحركة السالبة والموجبة تتجه نحو الله , حيث الموجب ( الخير) ينمو ويتكامل بقصوره الذاتي حتى يلاقي الله في مقام الجمال (عالم الجنة ), والسالب ( الشر) ينمو ويتكامل بقصوره الذاتي حتى يلاقي الله في مقام الجلال (عالم الجحيم) . فالإنسان الموجب يحقق كماله التام حينما يكون في عالم الموجب الكامل التام (جنة عرضها السموات والأرض) الخلود فيه يعني أن لا مرتبه من بعده كي يتحرك صوبها . والإنسان السالب يحقق كماله التام حينما يكون في عالم السالب الكامل التام ( عالم الجحيم) الخلود فيه يعني أن لا مرتبه من بعده كي يتحرك صوبها .
إن الإنسان الموجب إحساسه بالنقص يدفعه إلى البحث والتنقيب والتحرك نحو القيم الموجبة ( الإيمان, الخير, المحبة, الجمال , العلم, اللذة , السعادة ..الخ ) ليعوض ما ينقصه من قيم في العالم الموجب الذي ينتمي إليه , فتراه يسعى ويبذل الجهود في المجالات التي يكتسب فيها المزيد من القيم الموجبة التي يطلق عليها القرآن تسمية حسنات في الكثير من مجالات الحياة التي يخوضها , وهو يعلم انه ناقص يجب عليه ان يكمل نقصه عن طريق اللجوء إلى الله الكامل التام, عليه يتوكل ومنه يطلب تكميل نواقصه , فيأتي سعيه في الحياة الدنيا مطابقاً لما يريده الله تعالى مجده ولهذا هو موجب .

أما الإنسان السالب فإحساسه بالنقص يدفعه إلى البحث والتنقيب والتحرك نحو القيم السالبة ( الكفر, الشر, الحقد, القبح, الجهل, الألم, الشقاء ..الخ) ليعوض ما ينقصه من قيم في العالم السالب الذي ينتمي إليه , فتراه يسعى ويبذل الجهود في المجالات التي يكتسب فيها المزيد من القيم السالبة التي يطلق عليها القرآن تسمية سيئات في الكثير من مجالات الحياة التي يخوضها , وهو لا يعلم انه ناقص يجب عليه تكميل نقصه من خلال العلاقة مع الله الكامل التام ,وهذا هو الفرق بين المؤمن وغيره وبين العلم بالحقيقة والجهل بها . فيكون سعي الإنسان السالب مخالفاً لما يريده الله تعالى مجده ولهذا هو سالب .

لو تأملنا في هوية الكائنات من حولنا نجدها مفطورة على العدل والميزان في القيم المتقابلة التي تكوّن هويتها , انظر إلى الأرض تجد نصفها المقابل للشمس مضيء ( نور) ونصفها الآخر المحجوب عن الشمس ومظلم ( ظلمات) وحينما ندقق في ذرات العناصر في الطبيعة نجدها مفطورة أيضا على العدل والميزان في القيم المتقابلة ( الإلكترونات والبروتونات ) التي تكون هويتها , أي نصفها سالب ونصفها موجب .


كذلك الإنسان لحظة ميلاده مفطور على العدل والميزان نصفه خير ( تقوى) ونصفه شر ( فجور) بدليل قوله (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ) الشمس. والحركة نحو عالم الموجب او عالم السالب إنما تتعين على حسب كمية القيم التي تدخل في نفسه وتتراكم شيئاً فشيئاً حتى تصبح من ضمن هويته.
إن الحسنات والممارسات الصائبة ( المطابقة للفطرة) ما هي إلا قيم موجبة حينما تزداد في وعاء نفس الإنسان تصبح مركز ثقل وقوة تتحرك نحو عالم الموجب وتطلب المزيد من القيم الموجبة في سبيل تعويض نقصها وتحقيق كمالها .

وإن الذنوب والممارسات الخاطئة (المخالفة للفطرة ) ما هي إلا قيم سالبة حينما تزداد في وعاء نفس الإنسان تصبح مركز ثقل وقوة تتحرك نحو عالم السالب في سبيل تعويض نقصها . ويمكن توضيح هذه المسالة من خلال المثال البسيط التالي :

لو كان عندك ميزان ذو كفتين متكافئتين بلا زيادة أو نقصان , وكتبت على إحدى الكفتين موجب والأخرى سالب, فإنك بمجرد أن تضع ثقلاً في كفة الموجب تجد ميلاناً في الميزان نحو جهة الموجب , وتصبح كفة الموجب مركز ثقل لسحب الميزان باكملة بما فيه القيمة السالبة التي تكون خاضعة لتك القوة . وهذا ما يحدث في نفس الطفل بعد ميلاده حينما يؤذنون ويقيمون ويذكرون اسم الله في إذنه, إنهم يضيفون قيم موجبة في نفسه لا تذهب على العدم بل تبقى مطبوعة في نفسه وتصبح مركز ثقل أولي في ميزانه, فيجد في نفسه دائما الرغبة للتوجه نحو الله لأنه هناك ثقل في أعماق نفسه وفي الأساس واللبنة الأولى التي تتألف منها نفسه الباطنة . أما عن المتغيرات الأخرى اللاحقة التي تحدث للإنسان فهي على حسب الإثقال التي تضاف في الجهة الموجبة أو السالبة للنفس , فيميل ويرغب حيثما توجد أثقال في إحدى الكفتين من ميزان نفسه .

فكما في الجهة الموجبة للميزان كذلك في الجهة السالبة بمجرد ان تزيد قيمتها عن القيمة الموجبة فإن الميزان يميل نحوها لأنها تصبح مركز ثقل , ففي الشخصية السلبية الفاسقة عن الفطرة الأصيلة تجد ميولاً لا شعورياً نحو العالم السالب يدفع بالإنسان نحو حب مفردات عالم السالب والأفعال والسلوكيات التي تحقق المزيد من القيم السالبة (الذنوب) التي تعتبرها النفس مكملات لنقصها . بينما الشخصية الموجبة المؤمنة المتطابقة مع الفطرة الأصيلة تجد لديها ميولاً شعورياً نحو العالم الموجب يدفع بالإنسان نحو حب مفردات عالم الموجب والأفعال والسلوكيات الموجبة ( الحسنات) التي تعتبرها النفس مكملات لنقصها .

هذا هو الدافع السلوكي لكل رغبة وعمل وتوجه , إنها مراكز ثقل أضيفت لميزان النفس الإنسانة , يتعين مستقبلها ومصيرها على حسب نوع وكمية الإثقال الموجودة فيه . والنوع أهم من الكم بدليل( تفكر ساعة خير من عبادة سنة – حديث شريف).

تفكّر ساعة في مسألة ايجابية مفيدة تكمّل فيها نقصك الإنساني أو فيما يفيد للناس , مثل مقال , بحث , محاضرة ,كتاب , مسائل علمية .. ونحو ذلك , تجد ثقلاً كبيراً يدفع بك نحو المزيد من الإبداعات في هذا المجال الإيجابي الذي تخوض فيه , وإياك ثم إياك أن تتفكر لساعة أو دقيقة وأحدة أفكاراً سلبية في معصية الله ومخالفة الفطرة مثل شتم فلان أو لعن علاّن لمجرد انك تختلف معه سياسياً أو فكريا أو تغتاب او تحسد او تحقد .. ونحو ذلك , لأن ذلك يعني انك تضيف ثقلاً كبيراً في الجهة السالبة للنفس قد يدفع بك نحو ارتكاب المزيد من الذنوب من حيث لا تشعر , فالشخصية التي تتلذذ بالانتقاص من الآخرين تلعنهم وتشتمهم وتغتابهم أو تبهتهم أو تحسدهم بلا مسوغ ولا دليل على جرم وتجد نفسها مدفوعة لممارسة ذلك إنما شخصية عدوانية (سادية) محملة بأثقال من هذا النوع السلبي ( الذنوب) التي تكون سبباً في هذا الميل أو تلك الرغبة التي دفع بالشخصية لممارسة المزيد من تلك السلوكيات الخاطئة ( الذنوب), نهايتها حتماً في عالم الجحيم السالب .

أما علاج مثل تلك السلوكيات السالبة إذا ما وجدت , فيكمن في قوله : (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) ( هود114) حيث الحسنات أثقالاً موجبة في ميزان النفس كلما ازدادت كلما ذهبت السيئات بلا رجعة , وكأن عملية طرح حسابية تجري في النفس الإنسانية, فمثلاً لو كانت لديك اثقالاً سلبية (ذنوب) في ميزان نفسك مقدارها (-2 ) واستدركت نفسك بالاستغفار والتوبة , وعملت حسنات مقدارها (+10) , فإن مقدار الأثقال في ميزان نفسك سيكون (+8 ) بالقيمة الموجبة , هذا مجرد مثال , قد يكون دقيقاً او غير ذلك ,الله اعلم, ولكن المبدأ صحيح وهو ما أشار إليه قوله تعالى في الآية المباركة أعلاه (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).

من هو الإنسان السوي ( الكامل) ؟

لأجل ان يكمل الإنسان المفطور على الفقر والنقص منذ ميلاده ويعوض نقصه بعناصر أصيلة مضافة , عليه ان يعرف أصله والجهة التي انبثقت منها هويته الوجودية, وأن يتخذ له نموذجاً للكمال يقتدي به ويتحرك نحوه في خضم مراحل تعويض النقص وتكميل الذات. ولقد لفت انتباهي ان الأبحاث العلمية العلمانية في هذا المجال ( علم النفس) لم تشر إلى المصدر الذي انبثق منه الإنسان ولا إلى النموذج الإنساني الكامل وغفلت عنه تماماً وحصرت جل اهتمامها بالتفاصيل الأخرى الفرعية, وأمام مسألة كهذه فإن الإنسان الناقص الفقير إذا ما غاب عنه أصله و النموذج الكامل أو الهدف الذي يتحرك نحوه يصبح ضائعاً , وأن حركة عشوائية بلا هدف ولا اتجاه محدد سوف تحكم الكثير من مظاهر سلوكه , فهو لا يعلم ما هو النموذج الكامل لكي يسعى لـ أن يكون مثله ,أو يقلد صفاته وأفعاله , ولعل هذه من أهم أسباب الضياع التي تعاني منها الكثير من المجتمعات العلمانية البعيدة عن السماء والقيم الأصيلة في الكون . فيكونوا عبيداً بلا حرية ينقادون بلا تردد نحو تقليد ما يرونه مثيراً مثل موضات الأزياء, أو شخصيات فنية أو رياضية أو اجتماعية ونحو ذلك تعويضا خاطئاً للنقص الذي فطروا عليه, ولما كانت هذه الشخصيات غير كاملة بالمعيار الإلهي ( بالمقارنة مع كمال الله) فإن مصيبة كبرى سوف تحدث لهؤلاء الغافلين اللاهثين وراء بشر ناقصين أمثالهم .
أما في المجتمعات ذات الثقافة الإسلامية فالمسالة تختلف تماماً , حيث الله هو المصدر الذي انبثق منه الإنسان( نفخت فيه من روحي ) وهو المعيار وهو النموذج التام الكامل الذي يحاول الإنسان المسلم تقليد صفاته وأفعاله في سبيل تعويض نقصه وتكميل ذاته ,ويظهر ذلك بوضوح من خلال الممارسات السلوكية في العبادة , فالمسلم يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه جاء من الله وليس من جهة مجهولة وهذه مسالة في غاية الأهمية , إنها نقطة ارتكاز وجودية أصيلة هامة للنفس أن تعلم الجهة التي انبثقت منها وأنها روح من الله ( الكامل التام), وهذا تثبيت هام للهوية الأصيلة للإنسان .
الإنسان المسلم يصلي لأن الله يصلي بدليل قوله (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (43) الأحزاب وهو في ممارسته للصلاة إنما يقلد فعل الله الذي يصلي, ولما كان الله كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل, وهو تعالى مجده يصلي , فإن الصلاة من مصاديق الكمال ومن مصاديق الوجود في آن, والإنسان الذي يصلي اكثر كمالاً من الإنسان الذي لا يصلي . وهنا يظهر الفارق الجوهري ما بين الشخصية السوية وغير السوية .
الإنسان المسلم يصوم أي يمتنع عن الأكل والشرب وبعض الممارسات الأخرى مثل المعاشرة الزوجية ونحو ذلك , وهو بهذا السلوك إنما يقلّد فعل الله الكامل الذي لا يأكل ولا يشرب وليس له صاحبة (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ..) (14) الأنعام (..وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ..) (101) الأنعام , ولما كان الله لا يأكل ولا يشرب , وهو تعالى مجده كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل , فإن الصيام من مصاديق الكمال , والإنسان الذي يمارس هذا السلوك أكثر كمالاً من الإنسان العاصي الذي لا يمارسه , وهنا يظهر الفرق الجوهري ما بين الشخصية السوية وغير السوية.
الإنسان المسلم كريم ويعطي من ماله وما يملك إلى الفقراء والمساكين ( خمس , زكاة ,صدقة) وهو بهذا السلوك إنما يقلد فعل الله الرزاق الكريم الذي يعطي مما يملك (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..) (آل عمران189) ولما الله كان رزاق كريم يعطي مما يملك للعباد ,وهو تعالى مجده كامل تام , فإن الكرم والعطاء من مصاديق الكمال, والإنسان الذي يمارس هذا السلوك أكثر كمالاً من الإنسان العاصي الذي لا يمارسه , وهنا يظهر الفرق الجوهري ما بين الشخصية السوية وغير السوية.
الإنسان المسلم يحج , يطوف حول الكعبة في حركة محورية , وهو بهذا السلوك يقلد فعل الله , لأن الله يحج , أي يتحرك, (الواجب- تعالى مجده متحرّك بذاته ومحرّك لغيره) وبحركة الواجب تعالى مجده تتحرك جميع المتحركات, فهذه الحركة تظهر في جميع الموجودات التي تتحرّك بحول الله وقوته من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أو أكبر, تأمل في حركة مكوّنات الذرة ( الالكترونات والبروتونات) تجدها تدور ( تطوف) حول النواة (المركز), أنظر إلى حركة الكواكب السيارة وأقمارها , تجدها تدور ( تطوف) حول الشمس (المركز) ,والإنسان عند الحج يدور (يطوف) حول الكعبة (المركز) , والسبب في ذلك أن الحركة حول المركز من مصاديق الوجود لأنها مظهر لحركة الواجب تعالى مجده الذي يحرّك جميع المتحركات , والإنسان باعتباره حامل الأمانة ( روح الله) وممثل الله في الأرض, يجب عليه أن يتحرّك حول مركز ( رمز لله ) .
ولما كان الله متحرك بذاته ومحرّك لغيره يحرّك الموجودات ( الذرة , الكواكب , الأقمار) بالحركة المحورية المركزية , ,وهو تعالى مجده كامل تام , فإن هذه الحركة من مصاديق الكمال ,والإنسان الذي يمارس هذا السلوك أكثر كمالاً من الإنسان العاصي الذي لا يمارسه , وهنا يظهر الفرق الجوهري بين الشخصية السوية وغير السوية.

الشفاعة: بمناسبة ذكر الحركة ( المركزية) الكونية العامة نتطرق إلى الشفاعة التي هي من العقائد الأصيلة في الإسلام المنتزعة من هوية الله تعالى مجده, فكما يطوف الحاج حول رمز لله وهو الكعبة , كذلك يطوف الزائر عند زيارة الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام وأولياء الله الصالحين, وهم رموز لله باعتبارهم خلفاء له في الأرض , فالإنسان الكامل (المعصوم) رمز لله في مقام الظاهر وهو أعلى مقاماً من جميع الموجودات بما فيها الملائكة بدليل سجود جميع الملائكة للإنسان لحظة نفخ الروح فيه , وحركة الزوار حول مراقد أولياء الله بنفس حركة الطواف حول الكعبة إنما انسجام مع الحركة الكونية وهي حركة الله المحرك للكون , وهي بهذا المقام تشبه حركة الأقمار الصغيرة حول الكواكب العظيمة التي تدور حول الشمس , وهي أصل الشفاعة في الدين الإسلامي الحنيف , فكما الكوكب العظيم يسحب معه الأقمار الصغيرة السابحة في فلكه ويجعلها تدور معه حول الشمس خلال دورته هو حولها , كذلك المعصوم ( ولي الله الصالح) يسحب معه المؤمنين السابحين في فلكه والمقلدين لأعماله ويجعلهم يدورون معه في فلك طاعة الله , فحيثما يكون المعصوم يكون مصير التابعين معه , ( من أحب قوماً حشر معهم ).

وحركة إتباع المعصومين السابحين في فلك الله وتقليد سلوكهم, إنما تمجيد لحركة الله الكبرى ومساهمة فيها باعتبارهم جزء منها, (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (23) الشورى.

الإنسان المسلم يجاهد الكفار والمنافقين دفاعاً عن الذات والمستضعفين والعقيدة والممتلكات, وهو بهذا السلوك إنما يقلد فعل الله الكامل التام الذي يدافع عن المستضعفين وينصر المؤمنين ((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج:38) ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: 47)

فالله لا يرضى بالفساد في الأرض ويعاقب المفسدين , وعلى الإنسان حامل الأمانة (هوية الله) أن يتخلق بأخلاق الله ويفعل أفعاله ليكون مظهراً لله في مقام الظاهر ويعاقب المفسدين بحول الله وقوته, وهو حينما يعاقب المفسدين إنما يكون فعل الله قد ظهر في شخصه بقرينة قوله :(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال (17) فإذا ما انسجم فعل الإنسان مع ما يريد الله أن يفعله , يكون ذلك الفعل مظهر لله في مقام الظاهر وكأن الله هو الفاعل. ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (16) التوبة.

ولما كان الله يدافع عن المؤمنين وينصرهم ويعاقب المفسدين في الأرض , وهو تعالى مجده كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل, فإن الجهاد في سبيل الله وتقليد فعل الله في تلك المسائل من مصاديق الكمال , والإنسان المجاهد الذي يمارس هذا السلوك أكثر كمالاً من الإنسان العاصي الذي لا يمارسه , وهنا يظهر الفرق الجوهري ما بين الشخصية السوية وغير السوية.
لو نعدد جميع أفعال الله وصفاته سوف لن ننتهي , بل نكتفي بما قلنا ونشير إلى الأخريات بالإجمال , نقول: إن الإنسان الذي حمل هوية الله ( روح الله) لديه الاستعداد الفطري لأن ينمو ويتكامل حتى يصل إلى مقام ( عبدي اطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون مثلي ) (حديث قدسي ) أي يكون مظهر كامل لهوية الله في الأرض في مقام الظاهر, والسبيل الوحيد والأكيد إلى تحقيق ذلك هو العبادة ,أي تقليد أفعال الله وصفاته في ممارسات لها أوقات وجرعات معلومة مشار إليها في الكتاب المنزل ( القرآن الكريم), والمصادر الإسلامية الأخرى , فكما الله غفور رحيم مع المؤمنين ويحب المجاهدين ,يحب التوابين, ويحب المطهرين , ويحب المحسنين ,ويحب الصابرين ..الخ , كذلك الإنسان الذي يريد تكميل ذاته عليه أن يتخلق بأخلاق الله ويمارس تلك الممارسات التي تجعله في مصاف الكمال , والإنسان الذي لا يمارس تلك الممارسات الكمالية ,يعتبر ناقص ,غير سوي ( مريض) على حسب معايير السماء ,.
وكما الله شديد العقاب مع الكفار والمنافقين والمفسدين في الأرض , ولا يحب الظالمين ويتخذهم أعداءً له , كذلك الإنسان المؤمن عليه أن يتخذ من الله قدوة له ويفعل أفعاله في ممارسات سلوكية تتصل بأفعاله , أما الذي لا يمارس تلك الممارسات الكمالية , فيعتبر ناقص ,غير سوي (مريض) على حسب معايير السماء يجب عليه تكميل نواقصه قبل فوات الأوان, أي قبل الموت .
نستفيد مما سبق إن الشعور بالنقص عام شامل لجميع الموجودات دونما استثناء ولا ينحصر بالإنسان وحده, وهو السبب الذي يجعلها تتحرك نحو الكمال في عملية النمو والتكامل الجارية في النشأة , وأن جميع حركات وسكنات الإنسان إنما عملية تكاملية لتعويض النقص وتكميل للذات المفطورة عليه, وأن كمال الله وحوله وقوته هو السبب المؤثرة في سلوك الإنسان الذي يتحرك صوبه بقصوره الذاتي , وهذه الحركة المتجه صوب الحق تتخذ مظهرين اثنين تتعين على حسب كم ونوع إثقال السالب والموجب الموجودة في ميزان النفس المنتزع من هوية الله تعالى مجده .(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) ( 7الرحمن) وأن مستقبل ومصير هوية الإنسان يتعين على حسب كمية ونوعية أثقال أعماله وأفكاره التي أنجزها خلال مرحلة تعويض النقص وتكميل الذات .

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9))( الأعراف)

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11))( القارعة)

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة