المقدمة
 

قبل الولوج في هذا البحث الموجز لهذه الظاهرة الخطيرة وأعني بها ظاهرة شتم العلماء والتَهَجُّم على النُخَب من القيادات الإسلامية وَدَدْتُ أنْ أشير إلى سبب البحث في هذه الظاهرة لأنَّ فِكْري قبل ذلك كان مُنْشَغِلاً ويعيش حالة مخاض لإتمام ولادة بعض مؤلَّفاتي التي تَوقَّفتُ عن كتابتها بسبب ملاحقتي مِنْ قِبَلِ زُمَر الأمن البعثيَّة الكافرة مِمَّا حالَ بيني وبين مكتبتي التي أحتاجها في التحقيق وتخريج المصادر المعتبرة والتي أعتبرها أغلى ما أمتلك بعد الإيمان بالله ورسوله وولاية أمير المؤمنين(ع) لأنها وعلى صِغَرِ حَجْمها تتضمَّن خُلاصة الفِكْرِ الإسلامي وفي شتَّى العلوم والمعارف ، وكذلك بسبب ظروف المطاردة والمُلاحَقة التي توجب عليك التَنَقُّل المستمر من مكان إلى آخر ،
وبعد سقوط الطاغوت المقبور وأعني به طاغية البعث الكافر تَصَدَّيْنا ميدانياً لخدمة وقيادة المجتمع ومعالجة أهم القضايا الاجتماعية والسياسية والأمنية بحسب توجيهات الحوزة العلمية المقدسة المجاهدة ، وبعد أن خَفَّت وطْأة العمل الميداني بدأَتْ تنقدح في فكري الكثير من العناوين والمواضيع التي باتت تبدو ملفات مُلِحَّة وأضْحَت واقعاً حديث الساعة خصوصاًً وأنَّ المجتمع العراقي يعاني من شِحَّةٍ في المستوى الثقافي بسبب الإضْطهاد الفكري الذي مارسه الطاغية المقبور على المجتمع الإسلامي العراقي فلذلك كان لِزاماً على كل المخلصين من المُفَكّرين والمُثقَّفين عموماً التَصدّي لإنتشال المجتمع من هذا الواقع المُتَرَدّي كوجوب كفائي على أقلِّ التقادير بحسب اصطلاح الفقهاء،ثم ولِوَهْلةٍ من الزمن إسْتَوْقَفَتني ظاهرة خطيرة بدأت تستشري في المجتمع كالنار في الهشيم وبدأت تستفحل بشكل ملفت للنظر مما حدى بي إلى البحث فيها لأنه وعلى الأعم الأغلب من الظن بأنَّه هنالك جهات محلية وإقليمية بل وعالمية وراء هذه الظاهرة تدعمها مادّياً واعلامياً والهدف منها هو القضاء على هَيْبَة العلماء المجاهدين وصورتهم المُقَدَّسة في نظر ونفوس المجتمع الإسلامي يحاولون عَبَثاً تشويه هذه العلاقة بما يخدم مصالح الدوائر الإستكبارية وأذنابها في المنطقة ،
إنَّ هذه الظاهرة تُمَثِّل انحرافاً خُلُقيَّاً خطيراً سيكون لتداعياتها أثراً بالغاً يؤول في النهاية إلى تمزيق وحدة الصف وإضْعاف شَوْكة المُسْلِمين ،
وإنِّي وإذْ أُقَدِّم هذا القليل والقاصر مِنَ البَحْث الموجز لهذه الظاهرة فأنا على يقين بأنّي سأكون عُرضة للِْتَهَجُّم مِنْ قِبَلْ بعض الجُهلاء والمنافقين والمُنْدَسّين لِعَدم تناغم الطرح مع إتّجاهاتهم المُنْحَرِفة ولكنَّ عَزائي أَنَّهُ لي بذلك أُسْوة حَسَنة بمحمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) الذين كانوا يُمَثِّلون النموذج الأسمى في رعاية المَصالح العُلْيا والصالح العام للإسلام والمسلمين وكانوا ولا زالوا وسيبقَوْن الدِرْع الحَصين الذي يتَصَدّى لكل ما يَشوب ويشَوِّه الصورة الناصعة للإسلام الكريم وكذلك لي أُسْوة حَسَنة بسيدي ومولاي الفَيْض المُقَدَّس سماحة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قَدَّسَ الله خَفِيُّه) الذي كان لا تأخذه في الله لَوْمَة لائِم ، وسأحاول بِقَدَر ما يَمُنُّ اللهُ عليَّ أَنْ أَجْلوا الغبار وأكْشف النقاب عن كل ما يَمتُّ بِصِلَةٍ لهذه الظاهرة وأنْ أتَصَدَّى بذلك لِكُلِّ مَنْ يحاول المَساس والتَهَجّم بل وحتى الإيحاء بالإساءة إلى العلماء (قَدَّسَ الله أرواح الماضين وحفظ الله الباقين منهم) بل وحتى النُخَب مِنَ القيادات الإسلامية المُخْلِصَة مَهْما كان إتّجاه وإنتساب هذه القيادات ومِنْ دون استثناء،ولقد إخْتَرْتُ ورَكَّزْتُ البَحْث في آراء ومواقف العُلماء الثلاثة الموضوعة صوَرهم على الغِلاف وهم كُلٌ مِنْ السيد روح الله الموسوي الخميني (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) والسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) والسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) والسبب في ذلك هو لِما عُرِفَ عن هؤلاء العُلماء المُجَدِّدين مِنْ جُرْأَةٍ وشجاعة في النَقْدِ والإصْلاح والتجديد في الحَوْزَة العلميَّة المُقَدَّسَة والجهاز المَرْجعي وقد أمَطْتُ اللثام وأزَحْتُ السِتار بما لا يَقْبَلُ الشَكّ عن الخُلُقِ السامي والرفيع والتعامل الإسلامي السَمِح المُؤَطَّر بأَبْهى آيات التَبْجيل والتعظيم الذي كان يَصْدُر منهم بإتّجاه أَقْرانهم مِنَ العُلَماءِ فيكون بذلك حُجَّة بالِغَة أُخرى على كُلِّ مَنْ يتَجَرَّأُ بالسوء على العُلَماء على إعتبار أَنَّ هؤلاء العُلَماء هُمْ فقط الذين إشْتَهَروا بالنَقْدِ البَنَّاء والجَريء للحَوْزَة والعُلماء ومع ذلك كان تعاملهم بغاية الرُقيِّ والرِقَّة كما سيَظْهَر مِنْ خلال البحث وضِمْن حدود الشريعة الإسلامية المُقَدَّسَة مُعَبِّرينَ بذلك عن الأدَب العالي للإسلام الكريم وقِيَمِه السَمْحاء وتعاليمه المُبارَكة وبالتالي يُمكن أَنْ يقال هذا فَضْلاً عن بقيَّة العُلَماء الذين لم يُعْرَف عنهم هذا التوجُّه مِنَ النَقْدِ والتجديد والإصْلاح مِمّا يُضْفي على الجوِّ العام السائد بين العلماء في الحوزة العلمية وخارجها صورة ناصعة تَعْكس الخُلُق الإسلامي الرفيع في إسلوب التعامل فيما بين العلماء وبالتالي فَمِنَ المفروض أْنْ يكون هذا التعامل يُمَثِّلُ قُدْوَةً طَيِّبَةً لِتعامل العوام والجماهير عموماً مع عُلَمائِهم وقادَتهم وهذا أَقَلّ الواجب المُجْزي ومِمّا يُناسب هذا المقام أنَّهُ قديماً سُئِلَ الإسكندر؛ فقالوا له ما لَنا نَراك تُبَجُّلُ وتُعَظِّمُ مُعَلِّمُكَ أكثر مِمّا تُبَجُّلُ وتُعَظِّمُ أَباك، فأجابهم وكيف لا ؟ فأَبي هو سَبَب حياتي الفانية أمّا مُعَلِّمي فَهو سَبب حياتي الباقية .
أمّا عن سبب الإشارة الى السيد مقتدى الصدر في هذا البحث مع أنَّهُ ليس بِمَرْجعٍ فَضْلاً عَنْ أَنَّهُ ليس بِمُجْتَهدٍ كما يُعْرَف عنه وإنْ كان لي رأيٌ خِلاف ذلك في أنَّهُ ليس بِمُجْتَهد إلى الآن وإنْ لم يُصَرِّح هو بذلك فالمعروف عنه أنَّهُ طالب في الحوزة العلمية المُقَدَّسَة مُنْذُ أكثر مِنْ خمسة عشر عاماً ، عِلْماً أَنَّ الإجْتهاد لا يعتمد بالدرجة الأساس على عدد سنين الدراسة ولا على سعة الإطِّلاع على المصادر والمَناهج ولكِنَّه نورٌ يَقْذِفُه اللهُ بقَلْبِ مَنْ يَشاء وهو بإصْطلاح الفُقَهاء((مَلَكَةٌ يُقْتَدَرُ بها على إسْتِنْباط الحُكْم الشَرْعي الفَرْعي مِنَ الأَصْل فِعْلاً أو قُوَّةً قَريبةً)) (زبدة ألأصول للشيخ البهائي ص115 ط حجرية1267 ) ، ((والمقصود بالمَلَكَة هنا هي قُوَّة راسِخَة في النفس)) (بحوث في الاجتهاد للسيد البغدادي ص20 ) ، (( ويمكننا أَنْ نَدْخُلَ إلى تحديد مفهوم الإجتهاد كما فَهِمَهُ فُقَهاؤُنا، وقد وُجِدَ لهُ في كلماتهم عِدَّة تعاريف تَصُبُّ في إتّجاهَيْن رَئيسِيَيْن :
أحدهما : تعريفه- بأنَّ الإجتهاد هو بَذْلُ الوسْعِ والطاقة في تحصيل الأَحكام الشَرْعيَّة مِنْ أَدِلَّتِها التفصيليَّة التي هي الكتاب والسُنَّة.
ثانيهما : تعريفه- بأَنَّهُ المَلَكَة العَقْليَّة الحاصلة لدى الإنسان التي بها يُمْكِنَهُ تَحْصيل الأَحكام الشرعيَّة مِنْ أَدِلَّتِها التفصيليَّة)) (ما وراء الفِقْه للسيد محمد الصدر/ج1 ص20) وأعود إلى السيد مُقْتَدى الصدر وأقول فهو وإنْ كان أصغر أبناء الشهيد الصدر الثاني(قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه)إلاّ أَنَّهُ أَوَّل مَنْ تَعَمَّمَ منهم وكان السيد الشهيد الصدر الثاني يُوليه عِنايةً خاصَّة بما كان يَرى فيه مِنْ مَلَكاتٍ خاصَّة وهو صاحب فِكْرة جامعة الصدر الدينية وهو عَميدها الأوَّل وهذا ما وَردَ على لِسان السيد الشهيد الصدر الثاني(قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه)في لقاءِ الحَنَّانَة مع فضيلة الشيخ الشهيد محمد النعماني بالإضافة إلى أنَّهُ تَتَلْمَذَ على يدِ والده الشهيد الصدر(قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه)وبالتالي فإنَّه تَتَلْمَذَ على يدِ الأَعْلَم وبإضافة الوقت الذي كان يُرافقه فيه بحُكْم الترابط الأُسَري الوَثيق في العائلة الواحدة إلى وَقْتِ ساعات الدرس وبإضافة العامل الوراثي بحسب عِلْم الوراثة وعِلْم الإجْتماع وعِلْم النفس فهذه العلوم الثلاثة تُؤكِّد بأنَّ أفكار وأفعال ومَلَكات الإنسان ناتجة مِنْ مَصْدَرَيْن أساسيَّيْن هُما عامل البيئة والمحيط الذي ينتمي إليه الإنسان والعامل الآخر هو عامل الوراثة الذي يعني إجْمالاً تَناقل الصفات والمَلكات مِنْ جيلٍ إلى جيل مِنْ نَفْس السلالة عِبْرَ الجينات الوراثية وعِبْرَ الناقل DNA وبالتالي فإنَّ كل هذه العوامل التي تَقَدَّمْتُ بذِكْرِها تدفع بالسيد مُقْتَدى الصدر رَغْماً عنه نَحْوَ الإجتهاد وإنْ لَمْ يُصَرِّح هو بذلك لأسباب سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو حَوْزَويَّة لو صحَّ التعبير ثُمَّ أنَّ السيد مقتدى الصدر يَمْتَلِكُ ميراثا ًفقهيَّاً وأُصوليَّاً وفِكْريَّاً كافياً لإدارة شؤون الشعب العراقي ولهذا الجيل على أقَلِّ التقادير فالكَمّ الفِكْري للشهيدَيْن الصَدْرَيْن ونتاجاتهما الفقهيَّة والأصوليَّة العملاقة قد إسْتَوْعَبَتْ كافَّة مفاصل الحياة ومفرداتها اليومية بحيث عالَجَتْ أدَقّ التفاصيل وأعظمها وفي كافَّة مَرافِق الحياة وذلك عِبْرَ الرُؤى والتصوّرات الإستراتيجيَّة والآفاق البعيدة المدى وكذلك من خلال المادَّة الفِقْهية الضخمة والمُفَصَّلة التي تَرَكها الشهيدان الصَدْران للأمَّة والمُتَمَثِّلة بالرسالة العمليَّة الضخمة والرسائل الإستفتائيَّة المُتَنَوِّعة والكَمّ الهائل من الإستفتائات وإلى المستوى الذي تَهَيَّأَتْ لنا فيه رسالة عملية شرعيَّة في المعاملات والعبادات حتى بعد إنتقال الحياة إلى كواكب أخرى كما في (فِقْه الفَضاء) للشهيد الصدر الثاني (سلام الله عليه) وبالتالي فَما على السيد مقتدى الصدر إلاّ أنْ يُحَدِّد المَصاديق لِتلك المَفاهيم الفِكْريَّة والفِقْهية والأصولية وأعتقد أنَّ مستوى بَحْث اَلخارج ، وهو مستوى علمي يضع قَدَم الطالب الحَوزَوي على بداية طريق الإجتهاد ، كَفيلٌ بتحديد المَصاديق لِكُلِّ المَفاهيم الإسلامية والسيد مقتدى الصدر حائِزٌ على هذا المستوى بإعتراف الجميع مع أنَّه لي رأيٌ خِلاف ذلك كما تَقَدَّم لأنَّني أرى أنَّ مستواه العلمي أعلى من ذلك كما ذَكَرْتُ قَبْل قليل ولكنَّني تنَزَّلْتُ جَدَلاً ولَوْلا أنَّ المَقام لا يَسَع لَذَكَرْتُ كَيْفيَّة نشوء المرجعيَّة ومراحلها التأريخية ومتى كُتِبَتْ أوَّل رسالة عملية في المعاملات والعبادات و ما هي ولاية الفقيه وكيف نَشَأَتْ وكيفَ أنَّها قائمة على روايةٍ مَقْبولة سَنَداً لا أكثر وهي مقبولة عمر بن حنضلة وما هو الضابط والمعيار لِتَبَنِّي الفقهاء لهذا الطرح الفِكْري والفقهي والأصولي أو ذاك وما هو النَقْد والمُؤاخذات على النظام الحَوْزَوي السائد والكيانات المرجعية وأجهزتها من حيث النظام الدراسي وأساليب إدارتها وقيادتها السياسية والإجتماعية والإقتصادية للأمَّة مع ذِكْر الأطروحات التي تَتَمَتَّع بالأصالة والحَداثة للنهوض والإرتقاء بالأمَّة فَكُلُّ ذلك تجدونه في كتابي الموسوم بعنوان (محمد باقر الصدر و المرجعية المؤسَّسة) وأنا لا أريد بذلك أنْ أُقَلِّلَ مِنْ أهمية وجود المرجعية والفقهاء ولكنَّني أرَدْتُ أنْ تَطَّلِعَ الأمَّة على الحقائق الخافية لِتَخْرُج من قُمْقُم التقديس الأعمى والمُتَحَجِّر وفي نفس الوقت لانُريد للأمَّة أنْ تَسْتَهينَ بشأنِ مراجعها وفُقَهائها وقياداتها ولكنَّني أرَدْتُ بذلك مِنَ الأمَّة أنْ تقتدي بإمامها أمير المؤمنين(ع) الذي يقول((نَحْنُ قَوْمٌ نَؤُمُّ النَمَط الأوْسَطا لَسْنا كَمَنْ قَصَّرَ أو أفْرَطا )) فَتَهْتَدي الأمَّة بعد ذلك الى قياداتها الشرعيَّة المُخْلِصة لِيَحْيى مَنْ يَحْيَى عَنْ بَيِّنَة ويهْلَك مَنْ يَهْلَك عَنْ بَيِّنة ولذلك على الأمَّة أنْ تبتعد كلّ البُعْد ، قادةً وجماهير ، عن الجمود الفكري والإنغلاق والتَقَوْقع والتحَجّر وعليها أنْ تَتبَنَّى الإنفتاح الفِكري المدروس والمُتَّزِن الذي ينبني على الكَمِّ المعرفي والموروث الفكري والحضاري الذي وَرِثَتْهُ الأمَّة لتستثمره بالشكل الذي يُنَمِّيه ويكوِّن لديها تراكُماً مَعْرفياً يسير بها نحو التكامل وعلى الأمَّة قادةً وشعوب أنْ تتجَنَّب وتَحْذَر كل الحَذَر من التغيير لمجرَّد التغيير الذي قد تكون ورائه دوافعاً سياسية تتبنّاها مراكز القوى الدولية وبما يتناغم مع مصالحها التي تُمَثِّل مصالح الإستكبار العالمي أو قد تكون وراء عملية التغيير هذه مصالحاً شخصيَّة أو حزبية ذات أُفقٍ ضَيِّق لا تراعي المصالح العليا للأمَّة ، ومع أنَّ البعض ينتقد فُقهاء المرحلة التي تَلَتْ مرجعية شيخ الطائفة الشيخ الطوسي بعد وفاته سنة 460 هجري حيث عاشت الأوْساط الحوزوية وكوادرها المُتقدّمة من المراجع والفُقهاء في ظِلِّ الهَيْبَة العِلمية للشيخ الطوسي بحيث كانوا لا يَجْرأون على مُخالفة آرائه العلمية ولِما يُقارب المئة عام وذلك لِسَطْوَتِه العلمية العملاقة وحتى وصل الأمر الى أنْ أُطْلِقَ فيه على فُقهاء ومُجتهدي تلك المرحلة بأنَّهم مُجَرَّد مُقلِّدين ولكنْ بدرجات مُتقدِّمة والى أنْ كَسر ذلك الحاجز العلاّمة بن إدريس الحلّي ولكن بعد عقود طويلة من الزمن ، ولكنَّ ذلك حَدى بالبعض بأنْ يَسْتغلَّ هذه الأجواء وفي ظلِّ الدعوات المُضَلِّلة التي تَكْمُن ورائها دوافعاً سياسية أو مصالحاً شخصيَّة كما ذَكَرْتُ قبل قليل وتحت ذريعة الإنفتاح وعدم التحجّر والإنغلاق ومناداةً بحركيَّة الإجتهاد حيث بدأَتْ بعض الأصوات تتعالى من هنا وهناك وتحديداً في العقد الأخير مِنَ القرن العشرين الميلادي حيث دَعَتْ هذه الأصوات إلى ضرورة تجاوز الكَمِّ المعْرفي والنِتاج الفِكري والفِقهي والأصولي العملاق للمُفَكِّر الإسلامي الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) ،

وأنا أُجيبُ هؤلاء بثلاث مستويات /

1- المستوى الأول / إنَّنا نؤمِنُ ونؤكِّدُ على حركيَّة العقل الإجتهادي وبالخصوص لَدى فُقهاء الشيعة الإمامية الذين لهم قَدَم السَبْق في ذلك على غيرهم من النُظَراء في الإتجاهات الفكرية والعقائدية الأخرى ولكنَّ التجاوز المطلوب الذي تنادون به يستلزم إبتداءً الوقوف على مستوى ذلك الِفكْر المطلوب تجاوزه و إستيعابه وإحتوائهِ ثُمَّ البناءِ عليه وليس هَدْمه ، لأنَّ ذلك يعني الرجوع إلى نقطة البداية وإستمرار الدوران في حلقة مُفْرَغَة وهذه عملية تَخلُّف وليست رُقِيَّاً كما تَدَّعون وتطالبون لأنَّها تتضمَّن إستنزافاً وهَدْراً في الفِكْر والزمن والجهد و الإقتصاد و لايمكن تفسير ذلك بأيّ شكل من الأشكال إلاّ على أنَّ ذلك يُمَثِّل غِطاءً لِطلب الجاهِ والشُهرة على ضَوْءِ نظرية (خالِفْ تُعْرَف) أو أنَّ ذلك يُمَثِّل عُقَداً نفسية نَتَجَتْ وأنْتَجَتْ حِقْداً وحَسداً فَمُتَسافِل الدرجات يَحْسِدُ مَنْ عَلا هذا إنْ تَنَزَّلْنا عن الأغراض والدوافع السياسية المشبوهة .
2- المستوى الثاني / إنَّ تجاوز هذا الفِكْر الذي تُطالبون بتجاوزه من دون الوقوف على مطالبه و إستيعابها سيؤدّي إلى إحداث عملية قَفْز في الفراغ وستؤول في النهاية الى الإنحدار والتقهقر ومن ثم الإنهيار لأنَّها لا تُحَقِّق التراكم المَعْرفي والفِكْري الذي يُشَكِّل العمود الفقري للإرتقاء والتكامل ، فَكَمْ يا تُرى مِنْ هؤلاء الذين يدَّعون التَنَوّر والإنفتاح الفكري والرُقيّ قد وَقَف حقيقةً على المَطالب الفلسفية والفكرية للنتاج الفكري العملاق الموسوم بعنوان (الأُسُس المنطقية للإستقراء) أو (فلسفتنا) أو (إقتصادنا) للمفكر الإسلامي العملاق السيد الشهيد محمد باقر الصدر(سلام الله عليه) أو المَطالب الفكرية والعقائدية والفقهية والأصولية في كُلٍّ مِنْ (موسوعة الإمام المهدي(عج)-4أجزاء) ، (ماوراء الفقه-10 أجزاء) ، (منهج الأصول-5 أجزاء) للمفكر الإسلامي الكبير الفَيْض المُقَدَّس السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (سلام الله عليه) .

3- المستوى الثالث / إنَّ الفترة التي أعْقَبَتْ شيخ الطائفة الشيخ الطوسي(رضوان الله عليه) ولم تُخالَفْ آرائه العلمية والفكرية فيها إستمرت لما يُقارب المئة عام بينما لم يَمضي على رحيل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) سوى ربع قَرن والأدهى من ذلك أنَّه لم يمضي على رحيل السيد الشهيد الصدر الثاني سوى خمسة أعوام ولازالت الأمَّة تعيش لحظات الوَهَج العاطفي بينها وبين زعيمها وقائدها الكبير الذي جعلها تَنْفُض غبار الذُلِّ و الإنكسار لِتُرَدِّدَ معه هتافات العِزِّ والإنتصار مُتحدّياً أعتى طُغاة العصر ولازالت عالِقَةً في أذْهان الأمَّة تلك المشاهد المُتَألّقة و الأيام الخالدة لذلك يجب المحافظة على هذا الزخم العاطفي الذي تعيشه الأمَّة وتتفاعل معه بإتّجاه فكر وعنوان وأطروحات وروح الشهيدين الصَدْرَيْن بل ويجب إستثماره والبناء عليه وليس تجزئته أو هَدْمه فما دامت الأمَّة مُلْتَفَّة حَوْل هذا العنوان فيجب المحافظة على هذا العنوان ودَعْمه وتسديده فهنالك الكثير من العناوين الفكرية والعلمية التي طرحت نفسها على الساحة الإجتماعية كمرجعيات دينية أو كقيادات سياسية ولكنَّها لم تستطع إستقطاب مشاعر الجماهير ولم تستطع أنْ تحوز على ثقتها وتعاطفها لأسباب ذاتية أو لظروف موضوعية ، وإنَّني أرى أنَّ تفاعل الأمَّة مع قياداتها المُخلِصة وإلتفاف وتعاطف الغالبية العظمى من الجماهير مع زعمائها كان ومازال وسيبقى تفاعلاً عاطفيَّاً و يساعد على نجاحه العديد من العوامل الذاتية والظروف الموضوعية وإنَّني بذلك أُخالِفُ جميع المُفكّرين بِمَنْ فيهم الفَيْض المُقَدَّس السيد الشيد الصدر الثاني (قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه)الذي كان يَرى أنَّه من الشروط الأساسية لظهور دولة الحَقّ المُطْلَق بقيادة القائم من آل محمد المهديّ المُنْتَظِر (أرواحنا لتراب مقدمه فداء) هو أنَّ الإنسانية يجب عليها أنْ ترتقي وتتكامل حتى تصل إلى مستوى من العلم ومن ثم إلى مستوى من الإخلاص وأخيراً إلى مستوى من الإستعداد للتضحية فيؤهّلها ذلك لإستيعاب الأطروحة الآلهية المهدويَّة العادلة ومن ثم تجسيدها على أرض الواقع ولكنَّني أرى أنّ قوى الضَلال ودوائر الإستكبار العالمي ومن خلال عملائها من الحُكّام الطُغاة وَقَفوا حائلاً وسيَضَلّون واقفين حاجزاً وسَدَّاً منيعاً دون حصول هذا الإرتقاء والحَيْلولة دون تكامله وإنَّني أرى أنَّ التعثّر الحقيقي لإتمام شرط الظهور هو عدم وجود العدد الكافي من النُخَبِ القيادية التي تكون بمثابة حلقة الوَصْل بين القيادات العليا التي ستنضوي تحت إمرة ولواء القائد المعصوم (عج)والذين هم كَعِدَّة بدر، أي ثلاث مئة وثلاث عشر قائد كما ورد في الروايات عن المعصومين ، من جهة وبين القواعد الشعبية للأمَّة من جهة أخرى فالقيادات العليا التي هي تحت إمْرَة القائد المعصوم مباشرةً لا يُشْتَرَط فيها مُقارَبة المعصوم في العلم والفكر والإرادة لأنَّ الحُكْم الواقعي للإسلام مُتَوفّرٌ بحضور القائد المعصوم الذي يقود الإنسانيَّة بشكلٍ مباشر ، وسرعة الإتّصالات المرئيَّة والمسموعة والمطبوعة التي تَشْهَدها وتُمارِسها الإنسانيَّة اليوم وعلى مُخْتَلَف مُسْتَوياتها الثقافية و الإقتصادية والتي هي بإزديادٍ وتطوّر مستمر من خلال التقنيّات المُعاصرة ، تَكْفل إيصال الحُكْم الواقعي للإسلام خلال لحظات وبِشَكْلٍ مُباشر مِنْ قِبَلِ القائد المعصوم إلى الجماهير أو من القائد المعصوم إلى القيادات العُلْيا والتي هي بدَوْرها تقود الجماهير على ضَوْءِ التوجيهات المباشرة لقيادة المعصوم (عج) وبالتالي فهذه القيادات العُلْيا لا تحتاج إلى مستويات علمية عالية مُقارِبة في العِلْم والفِكْر والإرادة للمعصوم لأنَّها لن تحتاج عند ذلك إلى الغَوْص في بحور الإستنباط والإجتهاد الذي كانت تُمارِسَه هذه القيادات بغياب المعصوم وبالتالي فإنَّي أرى أنَّ الشرط الأساسي في إختيارها كقياداتٍ عُلْيا هو الإيمان التامّ بقيادة المعصوم والذي ينتج عنه الإخلاص التامّ والطاعة المُطْلَقة والإستعداد الكامل للتضحية ومثل هؤلاء وبهذا العدد القليل مُقارنَةً بِحَجْم وكثافة الأمَّة الإسلامية يُحْتَمَلُ جدّاً توفّرهم في هذا العصر بل وفي كلّ العصور ، ولكنَّ النُخَب القيادية التي هي ما دون هذه القيادات العليا وهي حلقة الوصل بينها وبين الجماهير كما ذكرنا ،هي التي تَصْنع الرأي العام المحلّي والإقليمي والعالمي وهي العامل الأساسي الذي يُغَيّر في بوصلة إستقطاب الجماهير ويؤثّر في توجّهات الأمّة والإنسانية عامَّة ، وهذا العدد من النُخَب القيادية هو الحلقة المفقودة وهو السبب الرئيسي لعدم إكتمال الشروط الأساسية لظهور دولة الحق المُتمثّلة بالأطروحة الآلهية المهدوية العادلة وأنا بذلك لا أضَع اللوم وأُحَمِّل المسؤولية على الأوساط الإسلامية الحوزوية و الكوادر المثقَّفة وحدها وحسب ولا يُفْهَم من أنَّني أرفع التكليف والمسؤولية عن القواعد الشعبية وعامَّة الجماهير بل على الجميع أنْ يَحثّ الخطى ويستنفر كل مكامن طاقاته والى أنْ تنتج الأمَّة هذا العدد الكافي من النُخَب القيادية وهو بذلك وجوب كفائي على أقلّ التقادير بحسب إصطلاح الفقهاء ،
فإنْ أشْكَلَ أحدهم على أطروحتي هذه وتسائل مستغرباً عن كيفية تفاعل القواعد الشعبية وعامَّة الجماهير تفاعلاً عاطفياً وبالتالي إستعداد هذه الجماهير للتضحية من أجل قيادات لا تستطيع أنْ ترقى لِفَهْم وإستيعاب ومن ثم تجسيد إطروحات تلك القيادات ، فكيف تؤمن ومن ثم تضحّي في سبيل أطروحات لا تستطيع فَهْمها و إدراكها و إستيعابها ؟!!

وأنا أجيب على ذلك بمستوَيَيْن :
المستوى الأوّل/ إنَّ توجّهات هذه القواعد الشعبية من الأمَّة والغالبية العظمى من الجماهير ومستوى إيمانها وتفاعلها وتعاطفها مع هذه الأطروحة أو تلك ، ومع هذه المرجعية الدينية والقيادة السياسية أو تلك ، لا يعتمد بالدرجة الأساس على مستوى فَهْم وإدراك وإستيعاب هذه القواعد الشعبية بذاتها وإنْ كان هذا المستوى من الوعي والإدراك والإستيعاب مطلوب ولو بنسبة مُعَيَّنة بل يكون الإعتماد الأساس في ذلك على النُخَب القيادية التي ذكرناها آنفاً فهي المسؤولة و هي العامل الرئيسي في صناعة وتكوين الرأي العام لتوجّهات الأمَّة .
المستوى الثاني / إنَّ البشرية تمرُّ بِلحاظ يقينها على ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى // هي مرحلة اليقين الذي يرتكز على أساس الفِطْرة النَقيَّة الخالية من الشوائب والتي لم يتعَكَّر صفوها بالشبهات العقائدية والإشكالات العلمية التي تَرِدُ و تزداد كَمَّاً ونوعاً كُلَّما إرْتَقى الإنسان إلى مراحل علمية أعلى .

المرحلة الثانية // هي مرحلة العلم والولوج في بحور الشُبهات العقائدية والإشْكالات العلمية والردِّ عليها ، وهذه المرحلة وإنْ كانت من الناحية العلمية أرقى مستوى وأعلى درجة وأرفع مكانةً من المرحلة الأولى إلاّ أنَّه بلحاظ اليقين والإطمئنان فإنَّ المرحلة الأولى أعلى يقيناً وأقوى إيماناً وأكثر إطمئناناً .

المرحلة الثالثة // وهي مرحلة اليقين الأعلى والإيمان الأكمل والإطمئنان الأتمّ وهو مستوى لا يبلغه إلاّّ الندرة النادرة من الناس ولا يصلُ إليه الإنسان إلاّ بعد أنْ يكون قد قطع أشواطاً طويلة في بحور العلم مع أشواطاَ قاسية وطويلة في ترويض وتهذيب النفس .
ومن المستوى الثاني وبمراحله الثلاث أرَدْتُ أنْ أوضِّحَ بأنَّ الغالبية العظمى من الجماهير ستؤمن بتلك القيادات وأطروحاتها وستتفاعل وتتعاطف وتضحّي من أجلها إرتكازاً على أساس يقينها وإطمئنانها الناشئ والمولود من فِطْرتها النقيَّة كما في المرحلة الأولى التي تُمَثِّل اليقين الأوَّل والذي يمتلكه الغالبية العظمى من البشر .
كان كُلُّ ما تَقَدَّم هو لِبيان أهمّية الجانب العاطفي في حركة وتوجّهات الأمَّة وإنّي بذلك لا أدعوا إلى مُجانبة العقل وتَحْكيم العاطفة بل أدعوا الى إستثمار عواطف ومشاعر الأمَّة إستثماراً عُقَلائيَّاً لإرشادها وتوجيهها وتسديدها بإتّجاه سُبل الحق وتسييرها على جادّة الصواب وبما يُرضي الله ورسوله وأهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ،
ولذلك فإنّي أدعوا اليوم قيادات الأمَّة من المراجع الدينية والقيادات السياسية الإسلامية والأوساط الحوزوية والكوادر المثقَّفة إلى تَبَنّي و دَعْم وتسديد السيد مقتدى الصدر الذي يُمَثِّل ويَرِثُ الزخم العاطفي الذي خَلَّفه الشهيدان الصدران في مشاعر الأمَّة و تجَذَّرَ في وجدانها بالشكل الذي يَصْعب جدّاً تكرار مثل هذا التعاطف الذي أبدَتْهُ الأمَّة تجاه أطروحة وفكر ورمزيَّة الشهيدَيْن الصَدْرَيْن وأدعوا هذه القيادات والعناوين بأنْ تَحْذوا حَذْوَ المفكر الإسلامي الكبير الشهيد الخالد محمد باقر الصدر(سلام الله عليه) وأنْ يكون لها فيه أُسْوة حَسنة حينما إتّخذ وبالتمام ذات الموقف الذي أدعوا إليه الآن فَبَعْدَ رحيل آية الله السيد إسماعيل الصدر ، الأخ الأكبر للسيد الشهيد محمد باقر الصدر والذي كان يُمَثِّل ثِقْلاً كبيراً للإسلام والمذهب في مدينة الكاظمية المُقَدَّسة ، أراد السيد الشهيد محمد باقر الصدر أنْ يُحافظ على هذه الرمزيَّة وهذه المكانة الإجتماعية وهذا الثقل الجماهيري في هذا المَعْقِل العلميّ والمركز الإسلامي المهم والمُقَدََّس لإستثماره في صالح الإسلام والمسلمين و ولاية أمير المؤمنين فَرأَى أنْ يكون ولد أخيه السيد حسين إسماعيل الصدر مكان أبيه الفقيد السيد إسماعيل الصدر فَيَحِلّ مَحَلّ والده ليواصل المسيرة ذاتها مستثمراً التَرِكة الإجتماعية لأبيه والتي لا يُمكن أنْ يَرِثها غيره وأدرك السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) بأنَّ القضيَّة تحتاج الى جهدٍ كبير لكي يتحقَّقُ لها النجاح ولذلك قَرَّرَ أنْ يُلْقي بثقلهِ في الميدان لإنجاح هذا المشروع وبما يُتاح له من الإمكانيات ، ولِندع السيد الشهيد يتحدث عن تفاصيل هذا الموضوع ورؤيته له وأهمّيته ، ثم لنرى ما حصل له من قِبَلِ أحد وكلائه الذي إعترضَ عليه في هذا الموضوع ، تماما كما سيعترض البعض على دعوتي هذه لتبنّي ودعم وتسديد السيد مقتدى الصدر وأنا أُجيبهم الآن مُقَدَّماً وحتى قبل ورود الإعتراض بما أجاب به السيد الشهيد الصدر الأول (سلام الله عليه) رَدَّاً على أحد وكلائه ويظهر أنَّ هذا الوكيل كان قد بعث برسالةٍ نقدية للسيد الشهيد الصدر الأول ذكر فيها ما يتعلَّق بهذا الموضوع فأجاب (رضوان الله تعالى عليه) بما يلي :


(( بسمه تعالى

عزيزي وعَضُدي المُفَدّى لا عَدِمْتُك و لا حَرِمْتُكَ. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا أستطيع أنْ أقول شيئا ًفي خضمِّ الآلام التي لا تُطاق لَوْلا الإيمان بالله ، والآمال الضخمة التي إنهارت في لحظة ، والصرح الذي تداعى ، والجزء الذي تَفَتَّت من وجودي وخطّي وكياني ، هذا الجزء الذي كان لي أخا ًفي الدم ، أباً في المعنى ، وشريكاً في الخطّ ، ورفيقاً في الألم والأمل ، وملجأً في الشدائد، وعَضُداً في كل ملمّة وكياناً مُتمّماً للكيان الكبير .
أقول لا أستطيع أنْ أقول شيئاً في خضمِّ تلك الآلام سوى كلمة واحدة أستمدُّ منها شيئاً من التسلية والرضا المنطقي ، وهي أنّ الحياة التي تَزْخَر بالألم تهون على الإنسان في مجال التضحية والفداء .
إنَّ العذاب الذي قدَّر لحياتي أنْ تمتزج به والتمزّق الذي قُدِّر لقلبي أنْ يعيشه سوف يمدّني بقدرة أكبر على التضحية بتلك الحياة المتمزّقة المتوهّجة بالألم ، وهكذا كلّ إنسان يعيش حياة الألم يكون أقدر على التسامي والتضحية لأنّه يُضحّي بحياة زاخرة بالمُنغِّصات ، والحمد لله ربّ العالمين وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
كنتُ أعيشُ الجانب العاطفي من المصاب ، وأعيش العقلي منه معاً ، وعلى مستوى الجانب العقلي بَدا لي من اللحظة الأولى أنّ التخطيط كلّه تحطَّم ، وأنَّ الجهود العظيمة التي بُذِلَتْ خلال عشر سنوات لإقامة هذا الكيان لِيُساهم في البناء الشامل للوضع الديني قد صُدِمَتْ صدمة كبرى ، وقد خرَّ الإنسان الذي سُلَِّطَت الأضواء كلّها عليه شهيداً أو كالشهيد في لحظة إنفجرت فيها كلّ تراكمات الألم في سبيل العمل الإسلامي قبل أنْ يُؤتى الكيان كلّ ثماره ، ولم يكن هناك أيّ إهتمام خلال السنين السابقة لإبراز وجودنا بشكل مباشر إكتفاءً بالوجود الآخر المنسجم مع الخطّ والفِكْر والنتيجة ، حتى أنَّ أكثر الأشخاص الذين كانوا يدورون في فلك زعامة الجامع الهاشمي في أرجاء المنطقة لم يكونوا يَحْمِلون عنّا أيّ مفهوم ، إذْ لم يكن من الضروري للإسلام تكوين هذا المفهوم بعد أنْ كان تكوينه عن السيد الأخ يُغني في النتيجة عن ذلك ، وقد شَعَرْتُ أنّ الفراغ الكبير الذي خَلّفه المصاب في نطاق العلاقات الضخمة الواسعة في المنطقة سوف يُملأ بالتدريج إذا ترك ونفسه بالبدائل الجاهزة في الكاظمية المُتمثّلة في بقيَّة المُعمَّمين ، وهؤلاء حينما يتقاسموا التركة ويَمْلأوا الفراغ سوف يَمْلأونه بأذواقهم وأفكارهم وطريقة تفكيرهم في الإسلام وتقييمهم للأشخاص والأحداث ، وبذلك نخسر كل شئ ، ولهذا كان من الضروري في نظري لِتَفادي المُشْكِلة أو جزء كبير منها من أمرين :
الأول – السعي لتكوين مفهوم عنّا ينسجم مع مستوى العمل الإسلامي المطلوب ، ومع مُتَطَلبَّات مستقبل المرجعيَّة .
والثاني – إبْقاء صورة المركز في جامع الهاشمي لِينعكس عليه ذلك المفهوم ويتفاعل معه ، لأنَّ إبْقاء صورة المركز شَرْطٌ في إيجاد ذلك المفهوم وشَرْطٌ في كيفية إستثماره وتفاعل الأمَّة معه .
والأمر الأول بحاجة إلى تخطيط ، وأما الأمر الثاني فكانت هناك صور :
الأولى – أنْ يُقَدَّمَ شخصٌ من مستوى الفقيد الحبيب إجتهاداً وعِلْماً وشُهْرةً ومَقاماً في النجف ، وهذه الصورة لا تُحقِّق الغرض الديني ، إذْ بِقَطْع ِالنظر عن إمكانية تحصيل شخص من هذا القبيل أو عدمها ، إنّا لا نَمْلك شخصاً على هذا المستوى يعيش نفس الخط كما كان السيد الأخ يعيشه ، وإذا تُرِكَ الإختيار للأجهزة الحاكمة في النجف فقد تختار فَرْداً على هذا المستوى من أعداء الخط وبذلك نخسر كل الجهود العظيمة التي بُذِلَتْ سنين مُتطاولة ،
والصورة الثانية – أنْ يُسْتَقْدَمَ شخص من الشباب على مستوى السيد نوري الإشكوري والشيخ عبد الهادي فضلي مثلاً ، ونحن نَمْلك على مستوى الشباب مَنْ يكون مُنْسَجِماً على الخط ، ولكن شابّاً من هذا القبيل لا يملك العناوين الضخمة والرصيد لا يمكن أنْ يستقطب ولا أنْ يَرِثَ شيئاً ذا قيمة من التَرِكَة الكبيرة ، بل سوف يُؤخذ على أمره ويَسْبِقه إلى كلّ شئ البدائل الجاهزة في البلد ، وبذلك يَتَفتَّت الكيان ، ويجب أنْ يبدأ هذا الشاب عمله منذ البداية فاقِداً كلّ الأسلحة التي كان الكيان يملكها من إجتهاد وشهرة ومقام راسخ لدى المرجعية ، و إرتباط تأريخي وعائلي بالكاظمية إلى آخر ما هناك .
الصورة الثالثة – أنْ يقدّم شخص يملك الرصيد العاطفي بوصفه إمتداداً للفقيد بحيث يستطيع بهذا الإعتبار أنْ يُبقي صورة المركز ، ونحتفظ بسبب ذلك بالأرضية التي نستطيع من خلال الإحتفاظ بها بَقيَّة مُخْتَلف القوى لِجَعْلِها تُمارس دَوْرها المطلوب في خدمة الإسلام والحوزة ، فالرصيد العاطفي الذي شهد أبناء الخمسين وأبناء الستين أنَّهم لم يَشْهدوا له نظيراً ، كان يفرض حلاّ ًمن هذا القبيل ، وقد تَجسََّد هذا الحل في عناصر ثلاثة :
العنصر الأول – إشْغال المركز و إمْتصاص الرصيد العاطفي الهائل بتقديم إبن الفقيد ، وقد قُدِّم السيد حسين دون السيد محمد الذي إقترحتموه أو السيد حسين الآخر لِعِدَّة إعتبارات ،منها : أنَّ الظروف الموضوعية أوْضَحَتْ أنَّ الشخص الوحيد الذي تَسلَّطَتْ كلّ الأضْواء العاطفيَّة عليه هو إبن الفقيد و الإنْدفاع الشديد مِنْ مُخْتَلف الطبقات التي كانت تدور في فلك سيدنا الأخ دَلَّلَ على ذلك بوضوح ، هذا إضافةً الى أمور أخرى لايُمكن أنْ أسْتَوْعِبُها في هذه الرسالة ...
العنصر الثاني – إسْتدعاء السيد نوري الإشكوري من النجف بعنوان مَلْئ الفراغ العلمي في جامع الهاشمي ، فالأرضية التي إحتُفِظَ بها بسبب العنصر الأول تُهَيِّئ الجَوّ المناسب للسيد نوري ، ونحن نُخَطِّطُ الآن بصورة جادَّة لِتَهْيئَة ظروف لِحَوْزَة حقيقية في الكاظمية تكون قاعدتها جامع الهاشمي بمسؤولية السيد نوري وإشراف كامل مِنّا ، وسوف تُسَلَّط الأضواء على السيد الإشكوري بِوَصْفِه أُستاذاً فاضلا ًلكي يَحْتَلّ من الفراغ القَدَر الذي يُتاح له ، ولكي يكون له من الوَزْن ما يجعل له تأثيراً في تَقْييم المرجعيَّة حاضِراً ومُسْتَقْبَلاً .

العنصر الثالث – التَفَقُّد الأسبوعي مِنْ قِبَلي بِمَعْنى حضوري ليلة الجمعة ونهار الجمعة من كل أسبوع في الكاظمية ، لِيُساهم هذا الحضور في تكوين المفهوم الجديد بما يُهَيّئ مِنْ لِقائات ، وليكون شَرْطاً في إنْجاح المَساعي الأخرى لتكوين هذا المفهوم والإشْراف على التخطيط بصورة كاملة .
هذه خُلاصَة المَوْقف في خِضَمِّ المِحْنة ، وأهمّ شئ في إنْجاح التخطيط التعاون في تكوين ميزانيَّة مُحترمة للحَوْزة التي من المَأْمول أنْ تكون قاعدة العمل الديني في المنطقة كلّها ، وبالرغم من أنّي قد أقْدَمْتُ أنا شخصيَّاً الآن على تغطية نفقات التخطيط والتعهُّد براتب للسيد الإشكوري الذي لا يَقِلُّ مع إيجار البيت عن أربعين ديناراً شهرياً ، بالرغم من هذا أشعر أنّه لابُدَّ من التفكير لِضمان المَوْقف عن طريق آل البهبهاني من ناحية ، وعن طريق الأصدقاء في المنطقة والمؤمنين من ناحية أخرى .
أشعر الآن يا عزيزي بإعْياء شديد ولهذا سوف أكتفي بهذا القدر والسلام عليك .
محمد باقر الصدر))(شهيد الأمة وشاهدها / ج1 /ص194-196/راجع الوثيقة رقم 38 من الكتاب المذكور، الرسالة بخط السيد الشهيد) .
لقد أوْضَحَ (رضوان الله عليه) في رسالته هذه بما لا يَدَعُ مَجالاً للشَكِّ كلّ التفاصيل الضرورية ، والأهداف الحقيقية من إهتمامه بجامع الهاشمي ، وأنَّ الغَرَض ليس هو إستمرار ذكرى أخيه المرحوم السيد إسماعيل الصدر والمحافظة على مكانته من خلال تعيين إبنه السيد حسين إسماعيل الصدر في جَوٍّ من الأسرية اللامُبَرَّرة ، وإنّما لأنّ المَسْجد بإعتباره مَرْكَزاً ، مُهمّاً وأنّ الإحتفاظ بالزخم العاطفي لِنَجْلِ الفقيد السيد إسماعيل الصدر يَضْمن نجاح العمل ، هذا العمل الذي لا يُراد به إلاّ خِدمة الإسلام ،

ولكن يبدو أنَّ وكيله هذا لم يكتفي بهذه التوضيحات و إعتبر كل تلك المُبَرّرات غير كافية أو أنَّه لم يكن قد تَسَلّم بعد هذه الرسالة ، فأرسل رسالة أخرى وإنْ كُنّا لا نَمْلك نصّها ولكن يبدوا أنَّها كانت قاسية جدّاً ، ويظهر ذلك بوضوح من الرسالة الثانية للسيد الشهيد نفسه فإنَّها حَمَلَتْ روح تلك المضامين القاسية التي إتّهمه فيها بالإنحراف ، فكان جواب السيد الشهيد في الرسالة الثانية وهذا نَصّها :



(( بسمه تعالى

عزيزي المُعَظَّم كُنْتُ قد أرْسَلْتُ إليكم رسالة قبل يومين عن طريق النجف واليوم تَسلَّمتُ رسالة منكم حَمَلها لي الشيخ طالب الصيمري ، وأنا أتَصوَّر أنَّ الرسالة التي كتبتها إليكم يمكن أنْ تُجيب إلى حَدٍّ كبير على الرسالة التي تَسلَّمْتُها اليوم منكم ولكنّي مع هذا سوف أُحاول أنْ أقول شيئاً ، قرأتُ رسالتك مِراراً عديدة ، وأظنّ أنَّها تَرَكَتْ في نفسي نَفْسَ ما تَرَكَهُ في نفس أمير المؤمنين قَوْلُ عَضُده المجاهد مالك الأشتر حين رآه قد وَلَّى أولاد عَمّه على أمْصار المسلمين فقال : على ماذا حارَبْنا الشيخ بالأمس ؟!! .
أنا أظنّ أنّ الشعور الذي تَرَكَهُ كلام الأشتر في نفس صاحبه هو شعور الإرتياح المَمْزوج بألم عنيف ، أو هو الألم الممزوج بالإرتياح ، إرتياحٌ لأنَّ في الأصحاب مَنْ يُراقِبُ ويُسَدِّد ، وألمٌ نتيجة لِرغبة الشخص في أنْ يُحيط َأصحابه بوجْهَة نَظَرَه كاملة غير منقوصة ، هذا مع فارق في المسألة كبير بين صاحبك وصاحب الأشتر ، وهو أنَّ صاحب الأشتر معصوم ، والوضوح لديه وضوحٌ على مستوى الحِسِّ المُطْلَق ، وهذا يؤكّد ألَمَه من ناحية حين يشكُّ الأشتر فيه ويُخَفِّف من ألَمه من ناحية أخرى لأنّ الوضوح الحسّي لِعمله خير عَزاء وسَلْوة له ،
نعم قد تألَّمتُ ألَماً ممزوجاً بالإرتياح وقد أكون مُتسامحاً في كِلا التعبيرَيْن حين أفْتَرِضُ أنّي تألَّمتُ وحين أفْتَرِضُ أنّي إرْتَحْتُ لأنّي أعيش دوّامة ألم غير مُحَدَّد ، ويَمْلأ كلّ وجودي فلا أدري كيف يدخل إلى نفسي ألمٌ جديد أو إرتياحٌ في خِضَمّ ذلك الألم ولا حَوْل ولا قوَّة إلاّ بالله ،
هناك نقطتان في رسالتك يا عزيزي أجِدُني مُضْطَرَّاً بِحُكْمِ وَضْعي أنْ أختصر في الجواب عليها ، أمّا إحدى النقطتين فهي الخطر الذي تراه ناجِماً مِنْ صَيْرورتي عالِماً لجامع الهاشمي يومين أو نصف يوم ، وهذا الخطر أُؤكّدُ لك أنَّه لا وجود له ، إذْ لا توجد هناك أيّ فكرة عندي إطلاقاً لِصَيْرورتي عالِماً يومين أو نصف يوم في جامع الهاشمي ، لأنَّ العالِميَّة في الجامع أو البلد تَتَمثَّل في صلاة الجماعة أو التدريس أو أيّ نشاط من هذا القبيل مُرَتَّب ، وأنا مُقَرِّرٌ لِعَدَمِ القيام بأيٍّ عمل من هذا القبيل ، نعم هناك شيئ إسمه التَفَقّد الأسبوعي ، وهذا شيئ أراني مُلْزَماً به وَلَوْ لَمْ يَخْلِقُ اللهُ جامع الهاشمي وفاءً لأبسط حقوق أخي التي تفرض عليّ أنْ أتَفقّد عائلته في كل جمعة ، وفي خلال هذا التفقّد سوف أُشْرِف طبعاً على سير العمل الديني في الجامع ، وأُوثّق العلاقات على مستوى عالم نجفي بالمؤمنين ، وهذا ما لا يُشكِّل خطراً ، نعم هذا سوف يُعيقُ عن بعض الفوائد التي يمكن أنْ تحصل في يوم الجمعة على صعيد الحوزة في النجف ، إلاّ أنّها إعاقة مؤقَّتة وفيها ملاك أقوى من تلك الفوائد ، وسوف يستمر هذا التفقّد منّي إلى أنْ تعود إلى عائلة أخي حياتها الطبيعية من الناحية النفسية وإلى أنْ يتفاعل السيد نوري والسيد حسين ضمن الوضع الديني بالشكل الذي يؤدّي إلى مَلْئ أكبر قدر ممكن من الفراغ .
وأمّا النقطة الأخرى فهي الأُسَريَّة والوراثة ، وهذه النقطة تارة تُعْرَض على مستوى الإتّهام الثبوتي ، أيّ إتّهامي بالإنحراف ثبوتاً ، وأخرى تُعْرَض على مستوى الإتّهام الإثباتي ، أيّْ أنَّ هذا العمل يفسح المجال للإتّهام ، فإنْ كُنْتَ ياعزيزي تَعْرِضُ ذلك على المستوى الأول فجوابه مُفَصَّلاً قد شرحته في الرسالة التي أرْسَلْتُها قبل يومين إليك ، فإنّي رأيتُ أنَّ الإحتفاظ بالرصيد الضخم الذي تَرَكَهُ فقيدي الحبيب بالشكل الذي ينسجم مع حاجة الدين يتوقّف على مزج عنصرين أحدهما بالآخر وهما السيد حسين والسيد نوري ، على أنْ يقوم كلّ منهما بالدَوْر الذي تُمليه عليه طبيعة الموقف وطبيعة شروطه وظروفه ، وكلّ التصوّرات التي طُبِّقَتْ كانت موضوعية بالإتّفاق مع أشخاص يعيشون الرسالة كما أعيشها ويعيشون ظروف المنطقة أكثر ممّا يعيشها أنت ، ويُقدّرون أهمّية التَرِكة التي تَرَكَها السيد الأخ ،
إنَّ الإعتراف بقوى واقعيّة أمرٌ لابُدَّ لنا منه ، وأنا أذْكُر أنّي قلتُ للشيخ مهدي بن الشيخ محمد الخالصي حينما لم يكن مُعَمَّماً وكان مُنْسَجِماً كلّ الإنسجام ، قلتُ له : إنَّك لابُدَّ أنْ تَتَعَمَّم لِتَرِث هذا الكيان لأنَّ الرصيد التأريخي والعاطفي لهذا الكيان لا يُمْكِن أنْ يَرِثَه غيرك فإذا لم تُعَمَّم فسوف يذهب هَدْراً من حساب الدين ،
هناك كلمات كثيرة لا أستطيع أنْ أكتبها لكِنّي بشكلٍ عام أطلب منك أنْ لا تَنْساق مع العاطفة وتَحْكُم بهذا الشكل السريع الباتّ ، إنَّ المفاهيم النظريَّة وَحْدها لا تكفي أساساً للعمل ما لم تُؤخَذ كلّ الظروف بعين الإعتبار ، إنَّ إمتلاك مركز ديني في المنطقة هنا أعتبره في غاية الأهمّية ، وكان الأسلوب الوحيد هو ما وَقَعَ .
وأمّا عَرْضُ النقطة على المستوى الثاني فأنا معك في أنَّ التفسير اللارسالي يتبادَرُ إلى ذِهْنِ الكثير ، ولكِنْ ماذا نَصْنَع وقد حَكَمَت الظروف بذلك وهذا الإنعكاس سوف يُخَفّفه من ناحية شرح واقع الظروف في نطاق المُحبّين ، ويُخفّف من ناحية أخرى التفاعل المُثْمر الذي سَوْف يَتَحقَّق بالمجموع المُرَكّب من السيد الإشكوري وسيد حسين ووضوح كامِل جوانب الموضوع ، وأمّا ما نَقلتموه مِنْ أنّ بعض الحاشية يُرَجِّجون إنتقالي إلى بغداد ، فإنْ كنتم تَقْصِدون من ذلك جماعة السيد(يقصد السيد محسن الحكيم(قدس))فأنا لم أُحسّ بهذا بل أحْسَسْتُ من الأصدقاء جميعاً الحِرْص الشديد على وضْعي النجفي وفي مقدّمتهم أبو صادق وأبو صالح ،
وهكذا نعرف يا عزيزي أنَّ المسألة ليست هي مُجَرَّد إرْضاء آل الصدر أو إرضاء السيد دام ظِلُّه وإنْ كان كلّ مِنْ هذَيْن الإرْضائَين في غاية الأهمّية في نظري لكن لم يكن يَتوقّف تحصيله على ما وَقَع ، وليست المسألة أنْ لا تجوع عائلة أخي ، وإنْ كانت هذه المسألة لإعتبارات وفاءٍ مُعيَّنة أعزّ عليّ مِنْ أنْ أفْقِدَ كِلْتا عَيْنَي لكن لم يكن يتوقَّف حلّها على ما وَقع ، وإنّما المسألة هي ما شَرَحْتُها لك ، وأُحسّ بأنّي عاجز الآن عن كتابة المزيد وإنْ كان هناك مَزيد ))(شهيد الأمَّة وشاهدها / ج 1/ص198-201/راجع الوثيقة رقم 39 من الكتاب المذكور ، الرسالة بخط السيد الشهيد) .
كان كلّ ماتَقَدَّمَ هو عَرْضاً وتوضيحاً لبعض أساليب القيادة في كَيْفيَّة إستثمار مشاعر وعواطف الأمَّة إستثماراً عُقَلائيَّاً لإرشادها وإدارتها بالشكل الذي يجعلها تتكامل وتصبُّ في الصالح العام للإسلام والمسلمين ، وهذا ما دفعني أنْ أدعوا إلى تَبَنّي ودَعْم وتسديد السيد مقتدى الصدر الذي يَرِثُ اليوم الزخم العاطفي الذي تعيشه الأمَّة تجاه الشهيدَيْن الصَدْرَيْن ،
وعلى تفصيل لا يسَع المقام لَذِكْره حَوْلَ السيد مقتدى الصدر مالَهُ مِنْ إيجابيات وما علَيْهِ مِنْ نَقْدٍ ومُؤاخَذات وبدراسَةٍ موضوعيَّة حَوْلَ ما أصْبَحَتْ عليه حَوْزَة الشهيد الصدر الثاني(قَدَّسَ اللهُ خَفِيُّه) بعد إسْتِشْهاده تجدونه في كتابي الموسوم بعنوان (حَوْزَة الصَدْرَيْن بَعْدَ الإغْتيال) .
وأعودُ إلى صُلْبِ الموضوع فأَقول إنَّ وجود بعضٍ مِنْ مَواقف السيد مُقْتَدى الصدر في هذا البَحْث هو بسبب ما عُرِفَ عَنْ بعض أَنصارهِ أو مِمَّنْ يُحْسَب عليه مِنَ الجَهَلَة والمُنافقين والمُنْدَسِّين الذين يَتَجَرّأون بِشَتْمِ العُلماء وبِصَدَدِ ذلك أَرى مِنَ الجَدير بالذِكْر بل مِمّا يَجب أَنْ يكون واضِحاً لدى الجميع أَنَّ أَمْثال هؤلاء الجَهلة والمُنافقين والمُنْدَسِّين كانوا مُتواجدين حتى في جيش النبيِّ الأعْظم(ص) وبين أَتباعه وأَنصاره هذا فَضْلاً عَنْ جيش وأَتباع وأَنْصار أَمير المُؤمنين (ع) فَكَيْف بجيش وأنصار وأتباع شَخْصٍٍ لم يبلغ درجة العصمة الواجبة بل لم يبلغ درجة المرجعية هذا فضلاً عن أنه لَمْ يَبْلُغ مَرْتَبة الإجْتهاد كما هو معروف عن السيد مُقْتَدى الصدر وإنْ كانَ لي رأيٌ خِلاف ذلك حَوْل المَرْتَبة الأخيرة كما تَقَدَّم ذِكْره قَبْلَ قليل ، ثُمَّ أَنَّهُ ومِنَ المعروف أَنَّ الأَعَمّ الأَغْلب مِنَ الناس ما هُمْ إلا هَمَجٌ رُعاع يَنْعقون مع كُلّ ناعِق بِحَسَبِ تعبير أمير المؤمنين(ع) وأَنَّ الله سبحانه وتعالى قد أَوْضَحَ وبِشَكْلٍ جَليّ على أَنَّ الكثرة الكاثرة مِنَ البشريَّة عموماً ما هُم إلا جَهلة لا يَعْلَمون سبيل الحقِّ ولا يَسيرون على جادَّة الصَواب واللهُ جَلَّ وعلا هو خالِقُ الخَلْق وهو أعْلَم بِصنْعَته وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا المضمون وأكَّدَ عليه عزَّ وجَلّ بآيات قُرْآنية كثيرة كقَوْله تعالى ((ولكِنَّ أكثر الناس لا يَعْلَمون)) وهذا النَصّ القُرآني مُتَكَرِّر في عشرة آيات وهي كُلٌّ مِنْ(يوسف/21)،(يوسف/40)،(يوسف/68)،(النحل/38)،(الروم/6)،(الروم/3)،(سبأ/28)،(سبأ/36) (غافر/57)،(الجاثية/26).
وفي قَوْلهِ تعالى((ولكِنَّ أكثرهم لا يَعْلَمون)) وقد تَكَرَّرَ هذا النَصّ القُرْآني في تسع آيات وهُنَّ(القصص/13)،(القصص/57)،(الزمر/49)،(الدخان/39)،(الطور/47)،(الانعام/37)،(االاعراف/131)،(الانفال/34)،(يونس/55)وآيات أُخَر تُؤكِّدُ صِفَة الجَهْل على غالبيَّة المُجْتَمَع وذلك بِقَوْله تعالى((بَلْ أَكْثَرهم لا يَعْلَمون)) وهذا النَصّ القُرْآني مُتَكَرِّرٌ في ست آيات وهي كُلٌّ مِنَ:(النمل/61)،(لقمان/25)،(الزمر/29)،(النحل/75)،(النحل101)،(الأنبياء/24).
ومِنَ الآيات الأخرى التي تُشير إلى صِفَة الجَهْل عند الغالبيَّة العُظْمى مِنَ الناس هي قَوْله تعالى((ولكِنَّ أَكْثَرهم يَجْهَلون))(الأنعام/111)
وكقوله تعالى (( وأكثرهم لا يَعْقِلون))(المائدة/103)
وكقوله تعالى ((أَمْ تََحسْب أَنَّ أَكْثَرهم يَسْمَعون أو يَعْقِلون)) (الفرقان/44)
وفي قوله تعالى((بَلْ أَكْثَرهم لا يَعْقِلون))(العنكبوت/63)
وإنَّ هذه الغالبيَّة العُظْمى مِنَ الناس حتى ولو عَلِمَت الحَقّ تَعامَتْ وتَغافَلَتْ عنه لأنَّهُ رانَ على قُلوبهم وقد أشارَ سبحانه وتعالى إلى هذا المَضْمون في آيات كثيرة منها قوله تعالى(( وما كان أَكْثَرهم مُؤمنين))وهذا النَصّ القُرْآني الكريم قد تَكَرَّر في سورة الشعراء في ثمان آيات وهي (الشعراء/8-67-103-121-139-158-174-190)
وفي قوله تعالى ((لقد حَقَّ القَوْلُ على أَكْثَرهم فَهُمْ لا يُؤمنون))(يس/7)
وفي قوله تعالى((ولكِنَّ أَكْثَر الناس لا يُؤمنون))(غافر/59)(الرعد/1)
وفي قوله تعالى(( وما أَكْثَر الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمنين))(يوسف/103)
وفي قوله تعالى(( بَلْ أَكْثَرهم لا يُؤمنون))(البقرة/100)
وفي قوله تعالى ((وما يُؤمِنُ أَكْثَرهم بالله إلا وَهُمْ مُشْرِكون))(يوسف/106)
هذا فَضْلاً عَنِ النعوت الأخرى التي يُؤَكِّدُها سبحانه وتعالى ويَصِفُ بها غالبيَّة المُجْتمعات كَنُعوت الكُفْرِ والإشْراك والكذب والجحود والفِسْق وغيرها مِنَ الأوْصاف وذلك بقَوْله تعالى((كانَ أَكْثَرهم مُشْركين))(الروم/42)
وفي قوله تعالى((فأَبى أَكثر الناس إلا كُفورا))(الإسراء/89)(الفرقان/5)
وفي قوله تعالى((وأَكْثَرهُمُ الكافِرون))(النحل/83)
وكقوله تعالى((وإن أَكْثَركُمْ فاسِقون))(المائدة/59)
وكقوله تعالى((مِنْهُمُ المُؤمنون وأَكْثَرُهم الفاسِقون))(آل عمران/110)
وكقوله تعالى((وإنْ وَجَدْنا أَكْثَرهُم لَفاسِقين))(الأعراف/102)
وكقوله تعالى((وأَكْثَرهم فاسِقون))(التوبة/8)
وفي قوله تعالى((ولا تَجِدُ أَكْثَرهم شاكِرين))(الأعراف/17)
وفي قوله تعالى((ولكِنَّ أَكْثَرهم لا يَشْكرون))(يونس/60)(النمل/73)
وفي قوله تعالى((ولكِنَّ أَكْثَر الناس لا يَشْكُرون))(يونس/38)(غافر/61) وفي قوله تعالى((ولكِنََّ أَكْثَركُمْ لِلْحَقِّ كارِهون))(الزخرف/78)
وفي قوله تعالى((وأَكْثَرهُمْ لِلْحقِّ كارِهون))(المؤمنون/70)
أو كقوله تعالى((وأَكْثَرهُمْ كاذِبون))(الشعراء/223)
أو في قوله تعالى((ولقد ظَلَّ قَبْلَهَمُ أَكْثَر الأَوَّلين))(الصافات/71)
وفي قوله تعالى((وإنْ تُطِعْ أَكْثَر مَنْ في الأَرْضِ يُضِلّوك عَنْ سبيل الله))(الأنعام/116)

إذَنْ ومِمّا تَقَدَّمَ ذِكْره مِنَ الآياتِ الكريمة أصْبَحَ مِنَ الواضح جِدّاً أَنَّ هذه الكثْرة الكاثِرة مِنَ البشريَّة عُموماً لا يُمْكِنُ أنْ تُمَثِّلَ المِعْيار الأقْوَم والمِقْياس الأدَقِّ الذي يُمْكِنُ مِنْ خِلاله أنْ نُقيِّمَ الجِهة التي يَدَّعون الإنْتسابَ إليها ثُمَّ لَطالما وعلى مَرِّ العصور السابقة كانت الأقَلِّيَة المُخْلِصَة مِنَ المُؤمنين هي التي حَمَلتْ أعْباء الرِسالة المُحَمَّديَّة الخالِدة وأنْقَذَت الأُمَّة مِنَ الضَياع وحافَظَت على هويَّتها وقِيَمِها مِنَ الإنْهيار والله تعالى يُؤَكِّدُ على ذلِكَ بِقَوْلِه جلَّ وعلا (( وقَليلٌ مِنْ عِبادي الشَكور))(سبأ/13) وقوله تعالى((وما آمَنَ مَعَه إلا قليل))(هود/40) ،
فَكَمْ هوَ عَدَد الأصْحاب الأوْفياء لِرسول الله(ص) وكَمْ هوَ عَدَد الأصْحاب المُخْلِصين لأَميرِ المُؤمنين(ع)وكَمْ هُمْ أنْصار أبي عبد الله الحُسَيْن ((عليه السلام)) وهكذا سَتَبْقى هذه الأقَلِّيَة المُخْلِصَة هي التي تَرْتَقي بالإنسانيَّة عموماً نَحْوَ التكامل جيلاً َبعْدَ جيل حتى ظهور القائم مِنْ آل محمد(عج)ومِنْ كُلِّ ما تَقّدَم أرَدْتُ أنْ أفْرِزَ الألوانَ المُتداخِلة وأُلمِع إلى الوَجْهِ الناصِع لِلْخُلُقِ الإسْلاميِّ الرَفيع للسيد مُقْتَدى الصدر وذلك بِمَواقِفِه المُشَرِّفة في إسْناده ودَعْمِه لِلْمَرْجِعيَّة والعُلَماء ، ليس تَعاطُفاً مع شَخْصِه أو دِفاعاً عَنْهُ تَحْديداً ولكِنَّه دِفاعاً عَنِ الحَقِّ والحَقيقة ودِفاعاً عَنْ تأريخ وتضحيات الشهيدَيْن الصَدْرَيْن الخالِدَيْن الذَيْن بِدِمائِهما الزَكيَّة أشْرَقَت الظُلُمات على العراق الذَبيح وتَعَبَّدَتْ لَهُ دًروب الحُريَّة ولأنَّ السيد مُقْتَدى الصدر يُمَثِّلُ الآن وَريثاً لأكْبَرِ حَرَكَتَيْن إصْلاحيَّتَيْن في تأريخ العراق الحَديث اللتان أسَّسَ لَهُما الشهيدان الصدران العظيمان فَكانَ لابُدَّ مِنَ الحِفاظ والدِفاع عَنْ هذه التَرِكَة العَظيمة جَعَلَنا الله وإيّاكُم لأنْ نَكونَ خَيْر وارِثين لِخَيْر مَوْروثَيْن .
ولِيَكون بِذلِكَ حُجَّة على كُلِّ مَنْ يَدَّعي الإنْتِساب لِهذا الخَطِّ الإسْلاميِّ الأصيل ويَنْفَرِز ويَتَّضِح لِلْرأي العام المَحَلّي والعالمي أنَّ كُلّ مَنْ يُخالِف هذا النَهْج وهذا السُلوك الإسلاميّ القَويم في تَعْظيم وتَوْقير العُلَماء هو خارِج عَنِ الخَطِّ الصَدْريِّ النزيه الذي إسْتَقى كُلّ مَعارِفَه ومواقِفَه مِنْ أخلاقِ أهْلِ البَيْتِ (صلوات الله عليهم أجمعين) ومِنْ فِكْرِ وأخْلاق الشهيدَيْن الصَدْرَيْن الخالِدَيْن الذَيْن سأُحاول أنْ أكْشِفَ النقاب عَنْ مُقْتَطَفاتٍ مِنْ أساليبِ تَعامُلِهِما مع المَرْجِعيَّة والعُلَماء لِتُشَكِّلَ بذلك نُقاط ضَوْءٍ لِلْمُؤمنين ولِتُسْقِطَ الأقْنِعَة عَنِ المُنافِقين الذين يَتَلَبَّسون بِلَبوسِ الدين الذين يَمْكُرون ولكِنَّ الله خَيْر الماكِرين وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا الشهيدَيْن الصَدْرَيْن والعُلَماء المُخْلِصين أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبون والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين .
 

              

 

الرئيسية