مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

فهم النص الديني رؤية علي ضوء المدرسة التفكيكية
محمد رضا إرشادي


تستند "المعرفة" في أي اتجاه، أو مبدأ إلى مصادر ومرتكزات (مبان) خاصة، من دون معرفتها تضحي عملية فهم معطيات ذلك الاتجاه عقيمة.
ولأجل فهم المباني التي يقوم عليها فهم الوحي في المدرسة التفكيكية، ينبغي أن ندرك بدءاً العناصر الأساسية لنظرية المعرفة ومصادر المعرفة عند الإنسان في نطاق هذه المدرسة. على أن مهمة كهذه لا تكتمل إلاّ بخطوة لا محيص عنها تقضي بضرورة التوجه إلى عناصر وجودية، وأخرى تعود إلى علم النفس الفلسفي، مما له تأثيره على نظرية المعرفة في هذه المدرسة.
الواقع، أن ما يعنى به هذا المقال هو معرفة تلك العناصر، وتحديدها في البدء، ثم الانعطاف صوب المقصد الأساسي الذي يرمي إليه البحث.
وعلى هذا، سيأتي هذا البحث في قسمين متتابعين. والأساس في هذه التجزئة يعود إلى الاختلاف الواضح بين المنظرين التفكيكيين المتقدمين والمتأخرين. المقصود من المتقدمين بشكل واضح المرحوم الشيخ مهدي الأصفهاني وتلاميذه بلا فصل، في حين أن المعني بالمتأخرين هم التلاميذ غير المباشرين للأصفهاني وأنصار هذه المدرسة في الوقت الحاضر، ممن أخذ على عاتقه إعلاء هذا الفكر، وبذل جهوداً وافرة لبيانه، وفاءً منهم لعلقتهم بأساتذتهم السابقين وتحقيقاً لما تمليه هذه العُلقة من واجب أداء الدين.
يبدأ هذا المقال بعرض نظريات هذه المدرسة في مضمار المعرفة الدينية وطبيعة فهم النصوص الوحيانية (من الوحي)، من خلال الهيكلية التالية:
القسم الأول: مرتكزات الفهم عند السابقين
1 ـ تدشين فصل جديد في فهم العقل.
1- 1- نفي العقل الفلسفي بالمباني الفلسفية ذاتها.
2- 1- حقيقة العلم والعقل .
3-1- تصنيف العلوم وإعادة فرزها على أساس :
أ- التباين في منشأ المعرفة
ب- التباين في المنهج
ج- التباين في المسائل والمحتوى
د- التباين في النتائج.
2 ـ الاستغناء عن الجهدين العلمي والعملي.
3 ـ محورية الله في المعرفة وحكومة العادة الإلهية.
4 ـ فهم الوحي عبر البساطة الذهنية ومن خلال الفراغ العلمي بعيداً عن المفروضات المسبقة.
القسم الثاني: مرتكزات الفهم عند التفكيكيين الجُدد
1 ـ فتح باب جديد
2 ـ معالم العقل الفطري
1- 2- الرجوع إلى الوحي مباشرة.
2-2- عدم انتظام العقل الفطري.
3 -2- نتيجة استعمال العقل الفطري.
4-2- التعقل الوحياني .
5 -2- عمق العقل وسطح العقل .
6-2- التعقل الفطري معناه نفي الفلسفة.
3 ـ الاجتهاد في معنيين .
4 ـ المعطيات النهائية.
مرتكزات فهم الوحي عند السابقين
1 ـ تدشين فصل جديد في فهم العقل
تنطوي مفردة "العقل" على قدر كبير من الخداع، بحكم المعنى الخاص الذي تصوغه المدرسة التفكيكية للعقل، مما يأتي متعارضاً مع معناه الفلسفي بالكامل. فالتحديد الذي يستقرّ فيه مصطلح العقل في معناه الفلسفي الخاص (من أنه قوة مُدركة للكليات) لا يتسق وما يبتغيه الاتجاه التفكيكي؛ بل وهو في تعارض معه. ففي هذا المسار تمّ تخطئة العقل الفلسفي على نحو كلي، ولم يُقبل لا على نحو الموجبة الكلية ولا على نحو الموجبة الجزئية. ولم يدخل في عداد مصادر المعرفة عند الإنسان. على صعيد آخر، إذا ما أبرزت هذه المدرسة اهتمامها بالعقل، فسيغدو عندئذ من مصادر المعرفة المتفردة، يحظى بالعصمة وبالحجية الذاتية، بحيث لا ينفذ الخطأ والاشتباه إلى معطياته ونتائجه مطلقاً.
على هذا، فإن مفردتي "الحجة والبرهان" هما في هذا الاتجاه وصفان مختصان بالعقل في معناه هذا. وفي ضوء الرؤية المتفردة التي تتبناها هذه المدرسة حيال مصطلح العقل، فإن البحث عن مسار وسطي يتميّز عن المنحى الأخباري من جهة، ولا يمتّ بقرابة إلى الفلسفة من جهة أخرى، سيقدم لنا عوناً في هذا المجال. فمن حيث النهج الأخباري ونفي هذا النسق يكفي ـ بحسب رموز التفكيكية ـ النظر إلى ما أولاه القرآن الكريم والروايات الشريفة من عناية وافرة في الحث على الرجوع إلى العقل.
وتتمركز الخلاصة المكثفة لنفي هذه المدرسة للعقل الفلسفي وللنسق الأخباري معاً، بما ذهبت إليه من القول: "التعبير بأنه حجة الله، وسائر ما ورد في تعظيمه ينافي التشكيك في حجيته، واحتمال الخطأ في أحكامه، أو التبعيض فيها بعد فرض إدراك العقل له. وليس ذلك إلاّ من جهة عدم عرفان حقيقة العقل وأحكامه. وتوهم أن كل ما يحصله الإنسان، ويستنتجه من المقدمات فهو حكم العقل"[1].
ينعت هذا النص ـ بصراحة ـ من يشكك في حجية أحكام العقل أو يرميها بالتبعيض بدعوى احتمال الخطأ؛ ينعته بالغفلة عما أحاطت به النصوص الدينية العقلَ من تعظيم وإجلال. والباعث على خطأ هؤلاء هو أنهم لم يدركوا حقيقة العقل. ثم ما ظنوه من أن العقل الفلسفي الذي يصل إلى أحكامه من خلال اصطناع المقدمات وعبر القياس المنطقي، هو نفسه حقيقة العقل في النص الديني، وتوهمهم أن الأحكام المنبثقة عن العقل الفلسفي هي أحكام عقلية، في حال أن الأمر ليس كذلك مطلقاً، وليس كل استدلال واستنتاج مساوقاً للعقلانية. هكذا ينبغي تلقي المراد من العقل ومعناه على نحو صحيح.
ولا ريب أنه موقف صائب ما ذهب إليه الاتجاه الأخباري من العزوف عن العقلانية الفلسفية، بيد أنه أخطأ في البديل الصحيح الذي ينبغي العثور عليه في المدرسة التفكيكية. هذا هو منطق التفكيكيين.
على أن هناك تقارباً بين الاتجاهين الأخباري والتفكيكي. ووجه اشتراك واضحٍ بينهما يتمثل بنفي النسق الفلسفي، في حين يكمن الاختلاف الوحيد بينهما في الجانب الإثباتي من القضية، متمثلاً بما سعت إليه التفكيكية من تمييز مسارها. ويرتكز جهد المدرسة التفكيكية في هذا الاتجاه على بيان حقيقة العقل؛ حيث جاءت الخطوة الأولى على هذا الصعيد بادّعاء تعارض الرؤية الفلسفية للعقل مع منطوق الآيات والروايات وهذا ما يومئ إليه النص التالي: "وهكذا يمتاز ما قالوه[الحكماء والفلاسفة] في هذا الباب عما نطق به الكتاب الكريم، والرسول الأكرم والأئمة المعصومون عليهم السلام، ويظهر أن الحقيقة التي سموها بالعقل أجنبية عن الحقيقة المسماة بهذا الإسم في الروايات، بل وعند العرف أيضاً"[2].
لكن، ما هو مقصود الحكماء من العقل حتى عُدَّ معارضاً لصريح النصوص الدينية ومخالف لفهم العرف وعامة الناس؟ الجواب: "خلاصة ما ذكره بعض محققيهم في العقل، أن العقل هو النفس بما لها من المراتب الأربع"[3].
بهذا يتضح أن مراد الحكماء من العقل هو النفس ذاتها. وأن له مراحل أربع؛ هي: الهيولائي، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. والمطلوب هو إلغاء هذا التصّور بالكامل وإحلال تصور آخر جديد مكانه: "إن حقيقة العقل الذي به تدرك المعقولات، وحقيقة العلم الذي به تُدرك المعلومات، وبه يحتج الكتاب والسنة، أجنبيّ عن ذلك كله، وعن حقيقة الإنسان المعبّر عنها بلفظ "أنا" وعن المراتب المذكورة لها"[4].
وعلى هذا الأساس، يتبيّن أنَّ المفهوم الفلسفي للعقل (بوصفه قوة مدركة للكليات أو نفس الإنسان أو المراتب الأربع للعقل) غريب عن الاصطلاح المستعمل في الآيات والروايات .
هذا هو منطق المدرسة التفكيكية الذي تفتتحه بتقديم رؤية جديدة لتفسير العقل، حيث يلتحق بهذه النقطة أمور أخرى، هي:
1-1- نفي العقل الفلسفي بالمباني الفلسفية ذاته
إنّ ما دفع الاتجاه التفكيكي إلى نفي العقل الفلسفي، هو فكرة أساسية تتصل بالحقيقة الوجودية لنفس الإنسان. فعلى ضوء النظريات الأنطولوجية والأيديولوجية لهذا الاتجاه، لا وجود لمجرد عن المادة إلاّ الله (سبحانه) والعقل والعلم، وماعدا ذلك، فإن المادة قد أحاطت الوجود برمته، وطغت بمشتقاتها على جميع أفنائه، وامتدت حتى لم تشذ عن هذا النطاق ظاهرة. على هذا فإن نفس الإنسان، هي مادة أيضاً، ومن ثم، فهي ليست بعيدة عن ظلمة المادية، وذلك في مقابل العقل والعلم اللذين يعدان موجودين نوريين ومجردين. عند هذه النقطة يبرز التغاير بين العلم والعقل من جهة، ونفس الإنسان من جهة أخرى، ويعبّر عن نفسه تلقائياً، حيث لا يمكن لحقيقة نفس الإنسان الظلمانية أن تكون عين حقيقةٍ هي بنفسها عين النور.
بناءً على ذلك تؤلف النفس والعقل سنخين مختلفين، ومنفصلين عن بعضهما: "إن المجرد عن المادة ولواحقها في المخلوقات هو نور العلم والعقل... لا النفس الإنسانية"[5].
بالإذعان إلى التغاير السنخي بين النفس والعقل، ينبغي تقديم حلٍ (تأسيسي، إيجابي) لكيفية معرفة النفس؛ بحيث تمارس النفس عملية المعرفة في نطاق ذلك الطريق، من دون أن تدخل في صقع تلك الحقيقة النورانية، وبلا أن تتنزل تلك الحقيقة النورانية عن مقامها العالي الرفيع وتكون من مراتب النفس، في الوقت ذاته تتخلى النفس في لحظة المعرفة عن ظلمتها الذاتية بالعرض، وتتوفر ـ بالعرض أيضاً ـ على نور العقل أو العلم. هكذا تمارس النفسُ المعرفةَ، وهذا هو حل الإشكالية الآنفة الذِّكر: "إن إدراك النفس ليس بقيام المعلوم بها قياماً حلولياً، بل بوجدان النور الخارج عن ذاتها الكاشف عنها وعن معلومها"[6].
يتضح مما تقدم أن "الوجدان" حالة عارضة تنبثق عن عروض النور على النفس، فكما أن النور الحسي يعرض على الأجسام، ويصير سبباً لظهورها، فكذلك تُفاض حقيقة العلم والعقل على الإنسان من خارجه، فيغدو مزوَّداً بصفة يمتلك من خلالها القدرة على درك الأشياء والأفكار.
2–1- حقيقة العلم والعقل
"إن حقيقة العقل الذي به تدرك المعقولات، وحقيقة العلم الذي به تُدرك المعلومات هو النور المتعالي"[7].
يكشف تحلي حقيقة العقل والعلم بوصف "التعالي" عن اختلافهما الأساسي مع حقيقة النفس، وخروجهما عن سنخها الوجودي، فالنفس من سنخ "الظلمة"، في حين أن العقل والعلم هما من سنخ "النور"، وحيث إنّ النور: "ظاهر بنفسه مظهر للغير"، فإن إشراق هذا النور على ظلمات النفس يصير سبباً لتبديل الظلمات إلى ظهور، وهذا هو التبديل الذي يقترن مع تعبير "الإدراك".
ومن الطبيعي، أنه لا ينبغي أن يُطلق على المفهومات الذهنية والمتخيلات اسم العقل والعلم، كما وقع هذا الخطأ في الفلسفة، فـ "العقل نور ظاهر بالذات، حيثيته الذاتية كشف حسن الأفعال الاختيارية وقبحها وكشف الواقع"[8]. كما نقرأ أيضاً: "إن لفظ العلم والعقل هما من الألفاظ الواردة في القرآن والسنة، وفيهما إشارة إلى حقيقة موجودة في الخارج لها واقع مستقل. أما التصورات والخيالات، فهما ليسا علماً وعقلاً، والعقل والعلم لا ينزلان إلى التصوّر والتوهم. فالمعلومات والمتصورات والمتوهمات ومتخيلات المعاني، والمفاهيم، والصور الذهنية برمتها تُعلم بنور العلم وتنكشف به، لا أن حقيقتها علم"[9].
تكشف الأوصاف التالية حيال العلم والعقل عن مدى هذه الرؤية وحدودها في هذا المجال:
1 ـ إنهما من الحقائق الخارجية المنحازة والمستقلة[10].
2 ـ إن حقيقتهما مجردة ونورية، وهما المجردان عن المادة فقط من بين المخلوقات[11].
3 ـ هما من الحقائق البسيطة غير المركبة[12].
4 ـ هذه الحقائق تتغاير مع المعقولات، والمعلومات، والمفهومات[13].
5 ـ هذه الحقائق تتغاير مع نفس الإنسان وبدنه[14].
6 ـ لا تقبل هذه الحقائق التعريف، ولا تخضع للتوصيف بأي شيء آخر، إلاّ أن تُلمس بالآثار أو بالوجدان[15].
7 ـ حيثيتهما الذاتية هي الكشف والظهور، وإن ظهور سائر الأشياء يتحقق بواسطتهما[16].
8 ـ يحظى العقل والعلم بالحجية الذاتية، ومن ثمّ معقولاتهما ومعلوماتهما مطابقان للواقع دائماً[17].
وينتهي هذا التصوير المتفرد للعقل الذي يُعَدّ بدوره الأرضية المناسبة، لكيفية وجود المعرفة وتحديد مصدرها، إلى بلورة موقفٍ يفيد حصر المعرفة الإنسانية بمصدر واحد فقط هو وحده المشروع وما سواه لا قرّه الشريعة، يتمثل بمصدر ما ورائي، وليس العقل بمعناه المألوف. إن العقل بالمعنى الآخر هو حقيقة نازلة مما وراء المادة، وهو بمثابة النور الذي يفيء بشعاعه على ظلمة النفس البشرية المادية، ويشرق عليها، فيهب المعرفة عن هذا الطريق.
3-1- تصنيف العلوم وفرزها إلى بشرية وإلهية
يفضي التصوير المذكور للعقل بعنوانه منشأ المعرفة ومصدرها، إلى الفرز بين نوعين عامين من المعرفة، ومن ثم ظهور اصطفاف في الساحة المعرفية ذاتها يوزع المعرفة إلى قسمين منفصلين عن بعضهما تماماً، لا علاقة لأحدهما بالآخر على ما يذهب إليه التفكيكيون. المعارف على قسمين هما: المعارف البشرية والمعارف الإلهية، لكل واحد منهما مساره الخاص الذي يتباين به مع الآخر، وله نسقه المستقل الذي يمضي به من دون أن تجمعهما أيَّة نقطة تلاقٍ، أو اشتراك على خط سيرهما لا الآن ولا في المستقبل.
وكنتيجة لهذا التقاطع في الخط والمسار، ستختلف أوصاف كل واحد منهما عن الآخر، فالمعارف البشرية منبثقة عن العقل الفلسفي الذي يستنتج من المقدمات عبر المنهج القياسي: "العقل الفلسفي يبلغ اليقين من خلال تأليف المقدمات، حيث لا يُعد هذا اليقين نوري الذات، لاستحالة إثبات مطابقته للواقع"[18].
ما يؤخذ دليلاً قوياً على عدم المطابقة بين العلوم الفلسفية وبين الواقع، هو الاختلافات الشائعة في التنظير، وذلك في مقابل المعارف الإلهية التي ترتكز إلى ضرب آخر من العقل: "إن الحكمة الإلهية مؤسسة على تكميل العقول، وقائمة على أساس التذكير بأحكام العقل، لكن لا العقل باصطلاح الفلاسفة"[19].
ما دام الأساس الذي يرتكز إليه الاثنان متغايراً، فلابد وأن تأتي النتائج المستندة إلى ذلك البناء متغايرة أيضاً: "هكذا صارت مفصلات العلوم، ومعارفها متعارضة مع المعارف والعلوم البشرية؛ لأن برهانها وكاشفها هو ربّ العزة ونوره"[20].
يوضح الاستدلال الذي يسند المدّعى المذكور، كيف أن هذا الضرب من المعارف هو فصل الخطاب، وذلك بسبب المهمة التي ينهض بها متمثلة برفع الاختلافات بالكامل. كما سلفت الإشارة إلى أن نتيجة الاستقطاب الحاصل بين هذين النمطين من العلم وتمايزهما عن بعضهما، هي "التباين الكلي" وليس "عدم التساوي الكلي" كما قد يظن البعض، على ما يومئ إليه النص التالي: "لا جامع بين العلوم البشرية والعلوم الجديدة الإلهية في شيء من الأشياء"[21].
إن هذا التباين الكلي بين العلوم البشرية والعلوم الإلهية هو تباين متقابل ومن الطرفين، وهو على نحو التناقض الذي لا يجتمع، ولا يرتفع؛ مما ينبغي متابعته في المجالات المختلفة ومن خلال الأبعاد التالية:
أ- التباين في المنشأ ومصدر المعرفة
أشرنا فيما سبق إلى أن منشأ المعارف البشرية بحسب هذا الاتجاه هو العقل الخطّاء، الذي لا يمكن إثبات مطابقة معطياته، وما يصل إليه مع الواقع بأي وسيلة كانت، كما أنَّ منهجه في العمل تتخلله الشبهة والخطأ. وفي المقابل، يعد العقل من سنخ آخر هو مصدر المعرفة في العلوم الإلهية. بتعبير آخر، إنَّ الإنسان بوصفه موجوداً مختاراً هو الذي يوجد المعرفة لنفسه في العلوم البشرية، بحيث يلعب دور "المُعِد" في كسب العلوم على أقل تقدير، في حين يختلف الحال في العلوم الإلهية وينحصر بالله، فالله وحده هو الذي يوجد المعرفة والعلم للإنسان: "فبرهان[المعارف الإلهية] وكاشفها هو ربّ العزة ونوره"[22].
ب- التباين في المنهج
البرهان المتداول هو منهج بلوغ المعرفة في العلوم البشرية، أما في العلوم الإلهية فالمنهج يتمثل بالتذكر وحده: "يتم تحصيل علومه الجديدة [العلوم الإلهية الجديدة في مقابل العلوم البشرية] عن طريق التذكير بالآيات الآفاقية والأنفسية وحقائقها وبالعوالم السابقة والأرواح... مما يشاهده الكمل من الأمة بنور ربّ العزة لا بالعلم الحضوري المألوف فضلاً عن أن يكون ذلك بالعلم الحصولي الحِكَمي [من الحكمة] والجزئي وعن طريق الإذعان المنطقي الذي يمتنع إثبات مطابقته للواقع"[23]. مادام الإنسان يقف في المعارف الإلهية قِبالة النور، فسيكفيه صرف التذكّر ليعرف الحقيقة ويقف على المعرفة، من دون أن يحتاج إلى شيء آخر: "لقد حصر الله قرآنه المجيد وسمّاه بالذكر والذكرى والتذكرة، كما وصف رسوله الأكرم بالذكر والمذكّر، وحصر وظيفته بالتذكير"[24]. كما ينمّ عن المعنى ذاته النص التالي: "يقوم أساس معارف القرآن المجيد على التذكير بالذات (الإلهية) خارجاً عن الحدين (حدي التعطيل والتشبيه)"[25].
ج- التباين الكلي في المسائل والمحتوى
"الحديث والقديم" صفتان لنوعين من العلم ترسمان على نحو جيد خطين غريبين عن بعضهما، هذا ما تؤمن به المدرسة التفكيكية. فالعلوم القديمة هي العلوم البشرية ذاتها التي كانت موجودة في الساحة المعرفية، ومتداولة فيها منذ عصور قديمة، وقد اتصفت بالقدم عند ظهور الإسلام، أما العلوم الحديثة أو الجديدة، فهي العلوم المنبثقة عن مصدر وحياني. وينبغي الانتباه إلى أن الحدوث والقدم ليسا زمنيين، بل هما علامة على غربة ضربين من العلم عن بعضهما، وغياب السنخية بين محتواهما فحسب.
من جهة أخرى، إن التغاير بينهما ليس طولياً، بحيث تُعد المعارف الإلهية هي الذروة والعمق، في حين تُعد المعارف البشرية سطحاً وظاهراً بالنسبة إلى ذلك العمق، بل التغاير بينهما عرضي وهما متقاطعان مع بعضهما بالكامل، وإلاّ لو كان الأمر غير ذلك، فلا معنى لتفرُّد القرآن بالإعجاز، ولا تأمّن هذا البعد، وبزعم هذه المدرسة إذا ما كانت ثَم سابقة لهذا النوع من المعارف بين البشر، فما كان ينبغي لهم العجز عن الإتيان بمثله: "تقع الحكمة والعلوم الإلهية الحديثة التي صُرّح بجدتها، في مقابل الحكمة والعلوم البشرية القديمة. وإلاّ لما غدا هناك معنى للاحتجاج بالقرآن، وعجز الجاحدين عن الإتيان بمثله، وجنوحهم إلى أساطير الأولين، وإلى أضغاث الأحلام والإفك القديم، وفى الحصيلة عجز الثقلين عن الإتيان بمثله"[26].
ثَم نقطة ارتكاز أساسية على ضوئها سوّغ التفكيكيون إسباغ صفة الجدّة والحداثة على المعارف الإلهية، وهي المحور المفصلي في اختلاف العلوم البشرية مع العلوم الإلهية، وهي حلقة البداية في التباين الكلي الضارب بين المعارف البشرية بأجمعها، وبين المعارف الإلهية. هذه النقطة التأسيسية، وذات الأثر الفاعل تتمثل فيما تذهب إليه العلوم البشرية من عدم وجود تباين بين الله والمخلوقات من زاوية وجودية، بحيث تنتهي هذه العلوم عبر تأسيس منظومتها وترتيب مسائلها إلى وحدة الوجود، في حين أن هذا التصّور يعدّ خطأً فاحشاً في نطاق المعارف الإلهية، ويصار إلى رفضه بالكامل.
ليس لله أي سنخية مع مخلوقاته قط، بل ترفض هذه المدرسة حتى السنخية التي يلحظها البحث الفلسفي بين العلة والمعلول وتعدّها غير متسقة مع المعارف الإلهية: "إن القرآن المجيد بوصفه رأس معارف الشريعة المقدسة لَيهتفُ بأعلى الصوت من أوله حتى آخره، ومعه جميع الخطب والروايات، بمُباينة ذات ربّ العزة لحقيقة المكونات والمجعولات؛ مباينة مع غلطية [من الغلط] الشيئية الماهوية، ومع الأعيان الثابتة الموهومة، ليفصح عن عدم وجود المماثلة، وغياب المشابهة من كل حيث وجهة وصوب"[27].
لقد حظيت هذه النقطة بمكانة مرموقة في منظومة الفكر التفكيكي، وحازت على أهمية فائقة عند التفكيكيين، حتى استقطبت في ثناياها بقية المكونات واستوعبت ما سواها من المسائل، كما صارت السبب في ابتعاد القائلين بوحدة الوجود عن المعارف الإلهية كافة، بحسب ما ذهب إليه أتباع الاتجاه التفكيكي. في هذا المسار نقرأ لأحد شخصيات المدرسة التفكيكية فيما كتبه عن حياته: "منذ سن الشباب، وأنا أبحث عن الحق، وأطلبه بفضل الله وتوفيقه، بيد أنه لا الفطرة، ولا القرآن، ولا الحديث أودت إلى أن يوجد عندي تصوّر توحيد الصوفية، أبداً لم يفض أيُّ من هذه العناصر إلى انبثاق مثل هذا التصوّر عندي. أجل، الثقافة بمعزل عن هذه العناصر هي التي قادتني للاطلاع على أفكارهم... لا يمكن لأحد أن يتوصل إلى توحيد الصوفية من خلال مبدأ الفطرة، أو من خلال مدرسة القرآن والحديث... إذا كان القرآن والحديث، قد جاءا من أجل هداية الإنسانية، وكانت مدرستهما هي مدرسة وحدة الوجود، لكان يتحتم على هذه المدرسة أن تسوق إلى توحيد وحدة الوجود آلاف الفقهاء على الأقل، منذ صدر الإسلام حتى الآن، من أولئك الذين لم يتعرفوا على الفلسفة والعرفان، بيد أنهم عاشوا الطاعة والتسليم إزاء القرآن والحديث"[28].
د- التباين الكلي في النتائج
عندما تختلف أدوات بلوغ المعرفة ومصادرها فمن الطبيعي أن تكون النتائج مختلفة أيضاً، ومن البديهي أن ينتج عن المسائل المختلفة نتائج مختلفة أيضاً. انطلاقاً من هذه الرؤية، ستكون معطيات العلوم البشرية من المنظور الكلامي ضلالة وغواية على حين تكون نتائج العلوم الإلهية بصيرة وهداية، ومن الزاوية العلمية لن تفيد الأولى أكثر من الظن، على حين تقترن الثانية باليقين والمعرفة: "نزلت الحكمة والعلوم الإلهية بنور الرحمة، وقد وُصفت أنها بصائر وبينات وهداية، وفي المقابل صارت الحكمة والعلوم البشرية ضلالة وظلمات. وعلى حين نُعتت الحكمة والعلوم الإلهية بالمبين والبينات التي يمتنع عليها الريب، وُصِفَت الحكمة والعلوم البشرية بالظن، والتخرص، والضلال المبين"[29].
2 ـ الاستغناء عن الجهد العلمي والعملي
ما هو الدور الذي يلعبه الإنسان بوصفه موجوداً مختاراً في كسب المعرفة؟ وكيف ينبغي له أن ينهض بهذا الدور؟ الجواب مباشرة ومن دون تأمل: أنه مادام التذكّر والتنبّه كافيين، فيتعيّن على الإنسان أن يضع السعي العلمي (كسب العلوم الحصولية) جانباً، ويترك الجهد العملي المتمثل بالتزكية وبناء الذات: "إن المطيعين لأحكام العقل الذين وصفوا بالمسلمين، المؤمنين، المتقين المحسنين، يحصل لهم عند استماع القرآن المجيد، أو قراءته، أو عند التذكر، والتدبر فيه، يحصل لهم بغتة بواسطة علم ربّ العزة؛ حالة يكتشفون من خلالها كنه حقيقتهم الواقعية المجهولة الفقيرة، كما يعرفون ربّ العزة بربّ العزة، دونما حاجة إلى الحكمة البشرية، والبرهان، أو تجشم عناء رياضة الصوفية"[30].
ويتمثل الشرط الأساس الضروري للمعرفة في هذه المدرسة بتخلية الذهن من كل مفهوم ومعقول مسبق، فتفريغ الذهن من المسبقات الذهنية هو الشرط الكافي للمعرفة عند التفكيكيين. ومعنى هذا الشرط تحديداً هو: الحذر من المعارف البشرية الحِكْمية والعرفانية؛ فالمفاهيم التي تنبثق عن الفلسفة أو العرفان، وتأخذ موقعها في الذهن، هي نفسها أعظم حجاب، وأشد معصية، كما أنها أشنع جنون بنظر صاحب الشريعة حسب المدرسة التفكيكية[31].
على أساس هذا النسق يغدو البحث عن مصادر أخرى منفصلة عن المصدر الوحياني الماورائي مع وجود السبيل السهلة والفاعلة المتمثلة بالتذكر والتنبّه، إما لغواً لا طائل من ورائه أو مضرّاً، وذلك تبعاً لما مر من أن هذا الجنوح إلى المصادر الأخرى يعدّ بنفسه من أكبر الحجُب، وأشنع ضروب الجنون في الساحة العلمية، كما أنه من أشدّ المعاصي في المضمار الإيماني. تأسيساً على هذا انتهوا إلى أن المعرفة الاكتسابية ليس لها دور تؤديه في المعرفة إطلاقاً، وحيث يكون الأمر كذلك، فلا ضرورة لتلقّي تلك العلوم وتعلّمها. أما من يؤمن بدور تلعبه المعرفة الاكتسابية، فيكون قد دخل في معركة ضدّ أصل الشريعة وأساسها، ومن ثم، فهو ممن يعين على هدمها: "تقوم الشريعة على المعرفة الفطرية لا الاكتسابية، ومن هنا، فإن من يقيم البرهان على لزوم المعرفة الاكتسابية، فهو في الحقيقة يبرهن على إبطال الإسلام وهدمه"[32].
3 ـ محورية الله في المعرفة وحكومة العادة الإلهية
قُسِّمت المعرفة الإنسانية في البدء إلى قسمين: فطري وكسبي. ما يتسم بالضرورة من هذين القسمين، ويبعث على القلق هو المعرفة الفطرية التي لها دور متفرد تلعبه على صعيد الإيمان. وإذا ما كان بالإمكان احتواء المعرفة الفطرية في تعريف محدّد، فيمكن القول إنها ليست كسبية.
وبكلام آخر، إن بداهة المعلوم هي التي تدلُّ على فطرية العلم. يدلّ على هذا الكلام الرواية النبوية: "إن الله تجلى لعباده وظهر"، التي جاء في توضيحها: "ومعنى التجلي كونه ضروريّ المعرفة، فطريها، غير مفتقر إلى الاكتساب، فإن التجلّي والكسب متنافيان"[33].
لقد تم التأكيد في المدرسة التفكيكية على أن بنيان الشريعة قائم على أساس المعرفة البسيطة والفطرية، ومن ثم فإن من يريد تركيب هذه المعرفة من خلال التعقل والعقلانية، فسيكون، قد عرض هذا البناء للخطر، لكن إذا ما كان الخروج عن البساطة إلى تركيب العلم يتم من قبل الله، فإن المشكلة، سوف تحل على نحو كلي. وحيث يكون الأمر كذلك، فلابدّ من أن يعهد بالأمر في باب المعرفة إلى الله وأن توكل المسألة كلياً إليه، فالله هو الذي ينهض بالدور الأصيل والأساس على هذا الصعيد، حتى يبلغ من محوريته (سبحانه) أنه لا دور للعبادات، ولا أثر يذكر للجهد العلمي، ولا مهمة يسهم بها المعلم الإلهي (النبي) في إنشاء المعرفة والتمهيد لإيجادها: "إن تركيب المعرفة إنما هو بيد الله، وليس لأحد يدٌ فيه، حتى خاتم النبيين"[34].
يدلل هذا النص صراحة على أن لا دور لأي إنسان في كسب المعرفة، فلا الإنسان نفسه يستطيع أن يسهم في إعداد الأرضية لانبثاق المعرفة، ولا الآخرين، حتى لو كانوا أنبياء الله فإنهم لا يستطيعون التدخل في فعل الله، ولا دور لهم يؤدونه في هذه المهمة. إنما للإنسان دور واحد فقط، يتمثل بالسعي السلبي؛ أي عليه أن يبذل جهده في أن لا ينهض بأي عمل في هذا السبيل، ومن خلال تسليمه، وخضوعه الكامل يكون، قد أدّى أفضل دور ونهض بما هو أكثر تأثيراً على هذا الصعيد. وما سوى ذلك، فإن كل ما يقوم به الإنسان، وما يبذله من سعي، إنما يكون حركة قهقرائية أو انحرافاً عن جادة الصواب، يفضي به إلى ما انتهى إليه الفلاسفة والعرفاء: "إن طريق نيل المعارف المبدئية والمعادية، والعلم بحقائق الأشياء ينحصر في الخضوع لدى الله وعبوديته، والالتجاء إليه كي يعرفنا نفسه"[35] .أيضاً: "إن عليكم التسليم له كي يعرّف نفسه لكم"[36].
وكذلك: "إذا ما كان [الإنسان] في مقام التفكر بالله، فهو محجوب مطرود لا محالة، وإذا ما صَغُر وتواضع واشتغل بالتكبير، والتهليل، وبالتمجيد، والتقديس، والتسبيح، وإذا ما نهض بواجب التعظيم والتجليل، وأدى الصلاة، فسيعرج من خلال أداء هذه الوظيفة العقلية إلى مدارج المعرفة ومراقيها، ويبلغ مقام رؤية ربّ العزة، ويغوص في بحر المعرفة الذي لا حدّ له"[37].
مثل هذا الكلام هو الذي يختط القاعدة المعرفية وفق منظور الاتجاه التفكيكي ويؤسس لها، وعلى أساس هذه الرؤية، وانطلاقاً منها اتخذ التفكيكيون موقفهم السلبي المطلق من الأسباب المألوفة في إيجاد العلوم، وإنشاء المعرفة، بحيث انتهوا إلى أن اللجوء إلى تلك الأسباب يتنافى ورؤيتهم التوحيدية؛ لأن الإيمان بسببية العلل والمعُدّات يثبت لها دوراً في عرض الله سبحانه، وقد آل بهم الأمر نهاية المطاف إلى الاعتقاد صراحة بأن نظام العادة الإلهية هو سبب تصحيح رؤيتهم التوحيدية وتوجيهها: "كشف الأمور وإن كان بالعلم والعقل، إلاّ أن العادة؛ أي سنة الله تعالى، جرت على حصول ذلك لنا بالأسباب، ومنها التعليم الذي حقيقته التذكير، والهداية بنور العلم والعقل"[38].
يتمثل كل الدور الذي ينهض به الاختيار والإرادة الإنسانية في كسب العلم، بالجانب السلبي من القضية؛ أي برفع الموانع الموجودة والحؤول دونها: "...فرق حجب الوهم والعقل، وذلك لا يمكن إلاّ بالإنعتاق من أسر الفكر، والتحرر من أوهام العقل"[39].
إذا ما كانت الساحة المعرفية مكاناً لجولان "العادة الإلهية" وسلطانها، فما من معيار قط، أو ملاك يمكن أن يُنظم هذه العادة ويضبطها، بل فضل الله ورحمته هما اللذان يملآن هذه الساحة، ويستحوذان على أُفقها بالكامل، حيث لا تأثير لأعمال الإنسان قط صواباً كانت أم خطأً، وطاعة كانت أم ذنباً؛ إذ هي لا مانعة ولا مؤثرة. كما لا أثر للعلوم الكسبية في تحصيل المعرفة مطلقاً؛ لأنها بالتفضل، والتفضل لا يتوقف عليها، ولا على ما سواها: "المعرفة والتوحيد لا يحصلان لأحد إلاّ بفضل الله وإحسانه ورحمته، فهو يختص برحمته من يشاء من عباده، وليس لأحد سبيل عليها ولا طريق للوصول إليها، فلا العبادات علة، أو مُعِدّة لحصول المعرفة، ولا المعاصي مانعة، تكون المعرفة معها ممتنعة الحصول، بل قد يتفضل الله على بعض عباده العصاة الفقراء جوداً صرفاً، وكرماً بحتاً، فيعرّف نفسه له ولا يُسأل عما يفعل؛ لأنه مختار محض، وقد لا يتفضل على بعض عباده، فلا يعرّف نفسه"[40].
يفصح لنا هذا النص بصراحة عن عمق التنظير الفكري للاتجاه التفكيكي في مجال المعرفة. ومادام ليس هناك دور للعلم والعمل، إذاً كلاهما غير نافعين في بلوغ المعرفة، وقد ذهب هذا الاتجاه إلى تخطئة العلوم البشرية والعرفان بعنف، بحكم أنهما يوليان حظاً للعلم والعمل في تحصيل المعرفة. بالإضافة إلى ذلك تذهب هذه المدرسة إلى أن رؤيتها هذه تعبّر عن مدّعيات صاحب الشريعة إزاء الموضوع: "إن مدّعى صاحب الشريعة فطرية المعرفة، ولا يحتاج، إلاّ إلى صرف التنبيه فقط"[41].
إذا ما كان بالمقدور اختيار عبارة جامعة تعكس في آن واحد، حصة الإنسان ودور العلم الحصولي في إيجاد المعرفة، والفاعلية الإلهية أيضاً، فسوف تتمثل بالنص التالي الذي يأخذ الجهتين بنظر الاعتبار: "إن للمعرفة جهتين: جهة الفعل، وهو من الله تعالى بسيطها ومركبها، وجهة القبول والانفعال وهو من الخلق"[42].
جهة الفعل هي الجهة الإيجادية للمعرفة نفسها، فليس ثمة غيرَ الله منشئٌ للمعرفة وموجد لها، ولا دور مطلقاً للوسائط والأدوات، بما في ذلك الإنسان نفسه الذي لا تلعب إرادته أي دور، وليس لها ما تؤديه في هذا المضمار. أما جهة الانفعال وتلقي الفعلية، فقد تم الإذعان بدور نسبي ينهض به الإنسان ويضطلع به على هذا الصعيد، يتمثل بأن عليه أن يفرّغ ذهنه ويخليه بالشكل الذي يصدق عليه وصف "البساطة". ومادام الأمر كذلك، فليس هناك حاجة ملحة إلى العمل وبذل الجهد فضلاً عن تحمل المشقة والنهوض بأعباء الرياضة. ومن الطبيعي أن الرؤية التفكيكية لا تؤمن بدور يمكن أن يؤديه العلم، والعمل، والتزكية في إيجاد المعرفة حتى على مستوى المُعِدّات .
4- فهم الوحي عبر البساطة الذهنية والفراغ العلمي
انطلاقاً من المرتكزات المعرفية للاتجاه التفكيكي، لا تحتاج عملية فهم نصوص الوحي إلى مقدمات كثيرة، بما في ذلك فهم القرآن الكريم. وتكمن النقطة الأساسية في فهم القرآن والتي لا يُضاهيها شيء آخر بـ "البساطة الذهنية"؛ ذلك أن أي ضرب من العلم الحصولي يسهم بتركيب هذه البساطة، يتنافى وبنيان الشريعة، ويتصادم معه. على هذا الأساس، يُعَدّ عامة الناس أقرب إلى فهم القرآن من علماء الرسوم؛ لأن ما يتراكم في ذهن العلماء ـ بالمعنى المتداول ـ من معلومات هي في حقيقتها أوهام وخيالات، سوف تفقدهم الاستعداد لدرك القرآن، ومن ثم لا يكون لهم نصيب من ذلك. أما عامة الناس، فيمكنهم أن يتحولوا بصرف التذكير إلى مخاطبين بالقرآن، ثم ينالوا صريح القرآن ويكون لهم حظ في بطونه ويبلغوا كنه معارفه بقليل من التدبر، ودونما حاجة إلى مسبقات ومقدمات. في المقابل، تجد أن علماء العلوم البشرية ممن أمضى عمراً في كسب العلم، يحمل مسبقاته ويفرضها على القرآن فرضاً سواءٌ أكان ذلك بإرادته، أم لم يكن؛ وذلك لعجزه عن التحرر من أنسجته الفكرية، وعدم قدرته على مواجهة القرآن والتفكير فيه بذهن خال من هذه الأنسجة والمسبقات.
هذه هي رؤية المدرسة التفكيكية وما تستدل به، يعززها السلوك العملي لرموز هذه المدرسة وكبارها، وانعطافهم إلى مبدأ التوجه صوب الوحي من خلال البساطة الذهنية واستلهام الوحي على ضوء هذا المبدأ. فمادامت حياة أولئك تتحرك في إطار هذه الرؤية، تراهم لم يقتنصوا الأفكار المستقاة من العلوم البشرية، ولم يعرفوا معطيات العلوم البشرية، إلاّ حينما انعطفوا نحو هذه الدائرة، مما يدلل على أن العلوم البشرية ليست فطرية، وأن هذين مضماران اثنان، ومجالان مختلفان: "مادمتُ لم أتجه إلى درس الحكمة أبداً، ولم يبلغ توحيد الصوفية أُذناي مطلقاً، ومادمت أزاول حياتي في نطاق السلوك الطبيعي البسيط، فلم يخطر بذهني قط احتمال وحدة الوجود والموجود، لا من هذا، ولا من تلاوة القرآن، ومطالعة الحديث"[43].
في إطار هذه الرؤية، من المحال أساساً، أن تنعكس في معارف القرآن وتبرز في ثناياها أفكار مستمدة من الفلسفة والعرفان من دون فروض قبلية ومسبقات ذهنية. ومع أن "وحدة الوجود" هي أبرز مثال وأثبت عنصر أفرزه الفكر الفلسفي والعرفاني، إلاّ أن حالة الاستحالة التي تتحدث عنها المدرسة التفكيكية لا تقتصر على هذه المقولة وحدها، بل تمتد لتشمل بقية الأفكار الفلسفية والعرفانية. نقرأ في نص له دلالة على المطلوب: "لا يمكن لأحد أن ينتبه إلى توحيد الصوفية انطلاقاً من مبدأ الفطرة أو من مدرسة القرآن والحديث نفسها. أما في مجال استفادة المطلب من الكتاب والحديث، فما يلوح للناظر أن أولئك يأخذون الأفكار من مصادر أخرى ويتعاملون معها كأُمور صحيحة مفروضة الثبوت، ثم يفتشون في ثنايا الآيات والروايات، ليقتنصوا منها عبارات تتطابق مع المعنى الثابت المركوز في الذهن ابتداءاً، أو يوجهوا تلك النصوص بالصيغة التي تتوافق به مع ذلك الثابت المركوز"[44].
لقد أوصت المدرسة المذكورة ـ على لسان صاحب النص ـ بقواعد تضبط منهج فهم القرآن، يأتي في طليعتها ممارسة عملية التفكير بالقرآن، والتدبّر فيه في حالة من الفراغ العلمي، وإن لم يلتزم صاحب النص بموقف تخطئة "الكسب والتحصيل" حيث يقول: يتحتم علينا الالتزام بالنقاط التالية في عملية استمداد الأفكار والمعارف من القرآن والحديث :
1 ـ بشأن الألفاظ والعبارات، ينبغي أن نخلي الذهن ونفرغه من المعاني الاصطلاحية، أما فيما يرتبط بالمطالب ذاتها، فيتحتم أن نحرّر الفكر من التسليم لآراء مجموعة من الكبراء [بحيث نذعن للفكرة ونخضع للرأي لمجرد تبني هؤلاء له]. "كما يتعين تخلية القلب، وتحرير الذهن من أسر جميع القيود الخارجية، بحيث لا يكون لنا هم سوى أن نصغي إلى المعاني التي تبثها لنا نصوص القرآن والحديث"[45].
يومئ النص بوضوح إلى أن ميل القلب إلى علوم الآخرين، والرغبة بها يُعَدّ في نفسه مانعاً عظيماً، يسُدّ الطريق على معرفة علوم القرآن، كما أن ملء الذهن بالأفكار والمعلومات يعد هو الآخر مانعاً عظيماً. وهكذا ينبغي نفض "الذهن" وتفريغه تماماً وغسل "القلب" وتطهيره بالكامل، ثم وضعهما في خدمة القرآن، وبين يديه، وهما في حال البساطة المحضة لكي تتيسر معرفة علومه.
لكن كيف تغدو هذه المهمة عملية بحيث تمارس بيسر؟ ثَمّ في هذا المجال توصية، وقاعدة عملية تستتبع حلّ هذه المشكلة وتذليلها، يفصح عنها النص التالي: "إذا ما أردت أن تدلف إلى بحث الفلسفة والحكمة، فعليك قبل ذلك أن تتعلم معارف القرآن والحديث، كما ينبغي لك أن تتفقه في الأحكام الفرعية للكتاب والسنة، وأن تتفقه بمعارف الكتاب والحديث أيضاً، ثم تنعطف بعدئذ إلى تعلّم الفلسفة والحكمة"[46].
إن العمومية التي يتسم بها النص المذكور تثير الانتباه إلى حد كبير، بيد أن ما يثير الانتباه أكثر ويبعث على الدهشة أزيد من ذلك، هي المماثلة التي يجريها النص بين مبحثَي الأحكام والمعارف ومساواته بينهما. فبالرغم من أن النص لم يتحدث عن تفاصيل العودة إلى الكتاب والسنة بغية فهم المطالب الفرعية، لكن بملاحظة الموقع الاجتهادي المرموق الذي يحظى به كاتب النص، وطبيعة إيمانه بالمدرسة الأصولية في الفقه، وإنكاره المنحى الأخباري في الفروع، بملاحظة ذلك كلّه لا مناص من أن يتم التعامل مع الكتاب والسنة في باب المعارف، بالطريقة ذاتها التي يتم بها التعامل معهما في الفقه؛ أي لابد وأن يُصار إلى التعاطي مع الكتاب والسنة في موضوع المعارف على نسق يقضي بالسير وفق قواعد محددة مسبقاً، واستفراغ الجهد بتطبيق هذه القواعد، لما يؤدي إلى فهم محتواهما. وهذه العملية غير ممكنة للإنسان العادي الذي ينطوي على ذهن بسيط.
إن الكاتب لم يشفع نصه بتوضيح كاف للتهافت المكشوف بين المقولتين، وما ذهب إليه من العمل على نسق واحد بين الأحكام والمعارف كما أوصى بذلك. ونقطة التهافت تبرز فيما ذهبت إليه المدرسة التفكيكية، من أن العمل في مجال المعارف على النسق المألوف في باب الأحكام يتساوق مع هدم الشريعة، ويتساوى مع تحميل الآيات والروايات الفرضيات المسبقة أو التعسف في توجيه محتواها بما يتوافق مع تلك المسبقات، ومن ثم انتهت إلى أن العودة إلى الكتاب والسنة مباشرة ومن دون مبادئ عقلانية ثابتة هو الشرط الذي لابدّ منه لنيل المعارف الخالصة من الشوب؛ والسؤال: كيف تكون القواعد الثابتة شرطاً في الأحكام ولا تكون كذلك في المعارف؟
تأملات نقدية
تنتهي الدراسة التحليلية لأفكار رادة المدرسة التفكيكية ورؤى رموزها التقليديين، إلى النقاط التالية:
1 ـ التفسير الذي تتبناه المدرسة للعقل والعلم هو تفسير غريب يعكس رؤية خاصة. ولا ريب أن الآيات والروايات بأجمعها ما هي، إلاّ خطابات تدعو العقل قبل كلّ شيء إلى الاستماع والطاعة، ومادام العقل مخاطباً، والإنسان بوصفه كائناً عاقلاً هو مورد الخطاب، فمن البديهي أن تكون هذه القوة موجودة في بنية الإنسان، وتكوينه قبل الوحي؛ لكي تصدق عليه قابلية إدراك الخطاب واستلامه. ومن هنا ذهب العلماء الأعلام إلى وجوب إثبات الوحي بالعقل وتصديقه به، وإلاّ فمن دون الإثبات العقلاني، لا يمكن إثبات الوحي كما لا تكون هناك فائدة من وراء إثباته، وعلة ذلك أنه إذا أُريد إثبات الوحي وخطاباته بالوحي ذاته، فإن كل مقولة تحتاج لإثباتها إلى مقولة وخطاب سابق، بحيث لا يمكن الإيمان باللاحق من دون إثبات السابق، وينبغي أن يتسم السابق بالخصوصية ذاتها وهكذا، مما سيجر إلى تسلسل لا نهاية له.
أضف إلى ذلك أن هذه العملية، لو حصلت ستفضي إلى ضرب من الانقياد والتعبّد التقليدي الذي لا قيمة له مطلقاً على ضوء ما تفيده النصوص الدينية الثابتة، على الأقل في مضمار التعاليم العقلية للدين؛ إذ إن وجود مثل هذا التصديق التقليدي في القضايا العقلية للدين يتساوى مع عدم وجوده، ومن ثم لا قيمة له.
تنظر المدرسة التفكيكية إلى العقل بوصفه قوة ماورائية، لها أوصاف خاصة، ولا تتعامل وإياه على أنه قوة إدراكية راكزة في بنية الإنسان وتكوينه. على ضوء هذه الرؤية ينبغي لهذه المدرسة أن تجيب عن السؤال التالي: هل يحظى الإنسان بمثل ذلك العقل في بدء مواجهته لنداء الوحي؟ لا مفرّ للاتجاه التفكيكي من أن يجيب بالإيجاب، ويقرّ بوجود ذلك العقل عند كل إنسان، وتمتّعه به كاملاً في لحظة الوحي الأولى، حتى يكون بمقدوره أن يحدّد نداء الوحي، ويكون من ثم موضعاً لخطاب "أفلا تعقلون". لكن كيف ينساق كثير من البشر إلى دائرة الإنكار، ويغرقون في مستنقع العصيان، ويصدّون نداءات الوحي، ويعزفون عن خطاباته بالرغم من أنه مزوّد بالأشعة الهادية لذلك العقل المعصوم الذي يعد حجة بالذات، كما يذهب إليه هذا الاتجاه؟ تكشف هذه المفارقة عن أن العقل الملحوظ في مثل خطاب: "أفلا تعقلون" ليس هو المعنى الخاص الذي يذهب إليه الاتجاه التفكيكي، بل هو تلك القوة الإدراكية العامة المعبأة في وجود كل إنسان، أو ما يطلق عليه بالعقل الفلسفي متمثلاً بتلك القوة التي تمارس ضروب الاستدلال العقلاني على مختلف المستويات، والتي تملك منطقها الخاص.
ثم إذا كان الناس جميعاً يحظون بتلك القوة الماورائية، وكان لبني الإنسان كافة عقل بتلك المواصفات، وكان العقل نفسه نازلاً مما وراء العالم المادي؛ إذا كان ذلك كله صحيحاً، فما وجه الحاجة إلى خطابات الوحي، ورسالات السماء؟ أفلا يستطيع الإنسان وهو مزود بذلك العقل القدسي، والموهبة الخاصة التي لا تشتبه في التشخيص مطلقاً، ولا يتخلل الخطأ نتائجها أبداً، أفلا يستطيع الإنسان أن يرتاد آفاقاً غير محدودة في ساحة العلم، ويسجل فتوحات ممتدة في مضمار العلم والهداية؟ ثم ما حاجته إلى الوحي بعد ذلك لكي ينتظر القبسات الهادية تأتيه من رسل من بني جنسه، وهو يحمل بين جنبيه عقلاً قدسياً ويتوفر على موهبة ماورائية ؟
إذا ما تم التعاطي مع هذه الرؤية إيجابياً، فإن أقل ما يمكن أن يقال فيها: إن هناك غموضاً يكتنف التفسير الخاص الذي تتبناه هذه المدرسة حيال العقل، بحيث تتضاعف مشكلة التصديق به .
2 ـ إذا كان التفسير الخاص الذي تتبناه هذه المدرسة للعقل لا يشمل الناس العاديين، بل يقتصر على النخبة، والخلّص الممحضين بالمعرفة والإيمان؛ إذ هم وحدهم الذين يتحلون بمثل هذا العقل، فإن السؤال حينئذ: ما هو النص الديني الذي يدل على اختصاص العقل بجماعة خاصة، هي وحدها التي تفهم الوحي، وتكون موضعاً لخطابه دون الآخرين؟ بينما تعكس النصوص الدينية موقفاً معاكساً لهذه الرؤية تماماً؛ إذ هي تدل صراحة على أن المخاطب بها هم الناس جميعاً بالعقل العام الذي ينطوي عليه كل إنسان، وبالقوة الإدراكية الموجودة عند الجميع، بحيث يكون لكل إنسان حظه من الإدراك بحسب استعداده، تماماً كما هو الحال في الرؤية الفلسفية التي تذهب إلى وجود مراحل، ومراتب متعددة للقوة الإدراكية العقلانية للإنسان بدءاً من العقل الهيولاني، حتى العقل المستفاد، مروراً بالعقل الفعال .
ولا ريب أن فكرة كالتي تنطوي عليها الرؤية الفلسفية هي أقرب إلى الحق والتصديق، من تلك التي تذهب إلى أنه من الضروري لكل إنسان في أي مستوىً ورؤية كان، أن يتحلى بالمرحلة النهائية، وكمال العقل، كلازمة لابد منها لبلوغ المعرفة. ثم تنعطف بعد ذلك إلى توجيه الحكمة والعدالة الإلهية ذاتها من أجل تبرير مثل هذه الفكرة الكبيرة، وهي تحكّم مبدأ التفضّل من دون معيار على جميع الأفعال الإلهية، لتنتهي في الحصيلة الأخيرة إلى اختيار النظريات الأشعرية في نظرية المعرفة ومعرفة الإنسان، بحيث يصل بها الأمر إلى إلغاء تأثير الأسباب (العلم والعمل) بالكامل، ولا تجد ملاذاً تلجأ إليه إلاّ "العادة الإلهية"، مع ما يترتب على ذلك من استبدال المصطلح القرآني "سنة الله" بمحتواه الخاص الذي ينطوي عليه بالاصطلاح الأشعري المخترع "عادة الله"، مع ما للأخير من حمولة معنوية مختلفة عن حمولة المصطلح القرآني ودلالته.
3 ـ إن الارتكاز إلى الخصائص المذكورة في وصف العقل، وتبيينه هو الذي أودى بالاتجاه التفكيكي إلى تلك الرؤية الغريبة في التعاطي مع النصوص الدينية؛ فالتعاطي مع العقل على أساس أنه موجود منحاز ومستقل، قد ضُمّ إلى الإنسان ضماً [لا أنه جزء من بنيته وتكوينه الوجودي] لكي يأتي بالمعرفة، ويزوّد الإنسان بها، يمثل في حقيقته عزوفاً عن المفهوم العقلي المشترك الذي ينتظم النسق السائد في معرفة النصوص الدينية. فالنصوص الدينية أطلقت أوصافاً على موجودات خاصة، نعتها الفلاسفة المسلمون باسم "العقل" استمداداً من تلك النصوص، وعدّوها واسطة الفيض بين العالم الألوهي والعالم الطبيعي. بيد أن البعض تصور أن تلك الأوصاف محمولة على قوة الإدراك عند الإنسان (العقل)، لينتهوا على أساس ذلك إلى وجود تغاير حقيقي بين نفس الإنسان، وبين العقل، وذلك بفعل إيمانهم بتجرد العقل الذي يتصف بالخصائص المذكورة.
وفي المقابل آمن هؤلاء بمادية وجسمانية الملائكة والنفس الإنسانية معتمدين في إثبات رؤيتهم على عدد من النصوص الدينية، ومستندين في ذلك إلى بعض الروايات.
أما الفلاسفة الإلهيون، فقد ساقتهم رؤيتهم التوحيدية، إلى الإيمان بمنشأ ماورائي في العينيات (الوجود الخارجي) كما في العلم، وفي الوقت نفسه أثبتوا في نطاق جهازهم الفلسفي نظام السببية، وآمنوا بوساطة العلل والأسباب .
إن النصوص الدينية لَتَدل صراحة، ودونما حاجة إلى أدنى تصرف، أو تأويل على وجود مثل هذه الموجودات التي تعدّها واسطة للفيض، ففي مضمار العين وعالم الوجود الخارجي يرتكز دور هذه الموجودات إلى روايات من قبيل: "أول ما خلق الله العقل"، على حين تتكئ في مضمار العلم وعالم الذهن إلى روايات من نظير: "إنما مثل العقل في القلب، كمثل السراج في وسط البيت". أما تفاصيل البحث، فهي منوطة إلى مصنفات الحكماء المسلمين ومؤلفاتهم الجليلة في شرح هذه الأحاديث الشريفة[47].
4 ـ إذا ما أردنا أن ننطلق من رؤية إيجابية في تقويم التفكيكية، فإن نقطة القوة التي تحويها نظرية المعرفة في هذه المدرسة، تكمن فيما ذهبت إليه من وجود نحو ارتباط للمعرفة ومصدرها بعالم ماوراء الطبيعة، وبما سعت لإثباته من وجود مبدأ لعلم الإنسان مستقل عن الأسباب والعلل الطبيعية؛ أي أن هذه المدرسة آمنت بجوهر قدسي للمعرفة، وبالإلهيات المنزلة والمقدسة التي تكون خارج دائرة العلم الإنساني والقدرة البشرية، ولا سبيل إليها إلاّ استمداد الغيب.
بيد أن النقطة التي تثير الانتباه بشأن هذه الفكرة الرفيعة العالية، أنها لا تقتصر على التفكيكية ولا تعد من معطياتها الخاصة، فَمَن له دراية بالبحث الفلسفي، وله معرفة بالاتجاهات المختلفة في الفلسفة الإسلامية يدرك جيداً أن الحكماء الكبار بذلوا عنايتهم بهذه الفكرة السامية أكثر من غيرهم، ودلَّلوا عليها كلٌّ بلغته الفلسفية الخاصة، إلى أن انتهت إلى نظرية العقول، حيث كان هدفهم من وراء ذلك إثبات دائرة خاصة لفاعلية النظم الفلسفية، وأنها تتحرك في مجال محدد.
وعند متابعة الفكرة في نطاق العرفان الإسلامي الذي يعتمد منهجية السير والسلوك لبلوغ المعرفة الحقيقية، والوصول إلى هذه القمة الشاهقة، يلاحظ أن النزاع مع منهجية العلم الحصولي انبثق من إيمان الاتجاه العرفاني بضرب من المعرفة العليا ينبغي أن تُفاض من المبدأ الحقيقي، وتكون طوراً وراء طور المعرفة الحصولية، على أن قواعد هذا الاتجاه تؤمن بأن على الإنسان أن يبذل كل ما بوسعه من جهد علمي وعملي، ولا يتوانى قط، إذا ما رام أن يكون في أُفق تلك المعرفة العلوية وفي مدارها.
إن حديث "القرب بالنوافل والفرائض" يومئ إلى مثل هذا المقام في العرفان والمعرفة، ويصرح بأن للعلم جوهراً قدسياً. على هذا، يتضح أن الفلسفة والعرفان الإسلامي (اللذين تعدهما المدرسة التفكيكية باطلين بالكامل) يتفقان كلاهما على الحقيقة التي تفيد: كما أن للوجود والعين مبدأ "منه"، فكذلك للعلم منشأ "منه" سبحانه. بيد أن أحداً من الحكماء، والعرفاء الحقيقيين لم يذهب إلى أن القبسات المعرفية التي تفاض من جانب الحق (سبحانه) تأتي جزافاً، وتتحرك دون معيار، كإيمانهم تماماً بتنزيه سائر شؤونه وأفعاله، وتأثيره في الخليقة من الجزاف والعبثية. ولهذا ذكروا شروطاً للارتقاء إلى درجات العلم النهائية، وبلوغ قمة المعرفة منها كسب العلم الحصولي، ثم الانخراط في سلك التهذيب والتزكية من خلال منهجيات خاصة، بحيث صارت نقطة الذروة في المعرفة، ونيل تلك المقامات خاصة بأفراد معينين، فالاتصال بالعقل الفعّال على حدّ اللغة الفلسفية، وبلوغ مقام القرب بالنوافل والفرائض على حدّ اللغة العرفانية، ولغة الحكمة المتعالية، ليس هو بالمرتبة السهلة التي يتيسر نيلها للجميع.
كما يتضح أيضاً أن نقطة البداية للتحلي بمثل هذه المعرفة العلوية، لا تتمثل بالطفولة العُمرية (من العُمر)، والعقلية المتمثلة بالبساطة، وعدم النضج العقلي، ومن ثم هناك فرق بين هذه المعرفة العالية والمعرفة الفطرية التي تعد مرحلة هابطة من المعرفة، ودرجة نازلة في سلّمها. إن المعرفة الفطرية هي المرتكز والأساس والبذرة التي تنمو على أساسها المعرفة، وليست هي الهدف والمقصد وثمرة المعرفة، حتى يكون محض الركون إلى التذكير والتنبيه كافيين في جميع المراحل التي تتحرك بها هذه المعرفة على خط نموها. أجل، يتمتع الإنسان منذ لحظة وجوده بالمعرفة الفطرية البسيطة، لكن لا ينبغي الخلط بين هذه المعرفة البدائية المتواضعة التي يحظى بها الإنسان من اللحظة الأولى لوجوده، وبين المعرفة العالية التي يكتسبها بعد ذلك.
ويبدو أن ما دفع الاتجاه التفكيكي إلى التركيز على التذكير وأن صرف التنبيه كاف، ومن ثَمَّ حصر دور القرآن الكريم، والنبي المصطفى(ص) في بعض الموارد بمحض التذكير والتنبيه، إنما يعود للاعتقاد بأن تفتح الفطرة ويقظتها، لا يحتاج في المراحل الأولية إلاّ إلى مؤونة قليلة، ورصيد ضئيل. وهذه الفكرة تتعارض كلياً مع ما يريده الاتجاه التفكيكي من حصر الدور بالتذكير، وآية ذلك أن التفكيكيين آمنوا بدور مطلق للتذكير يتحرك على مدار مفتوح؛ إذ عمموا هذا الدور على مراحل المعرفة البشرية بأجمعها، ثم عمدوا على أساس ذلك إلى تخطئة جميع العلوم الحصولية، وألغوا تأثير العلل والأسباب الطبيعية كافة، وعطلوا دورها في انبثاق المعرفة، بل قالوا بضررها.
5 ـ عند النظر إلى المرتكزات المعرفية للمدرسة التفكيكية، يلحظ أن النتائج المترتبة عليها والمعطيات التي تستند إلى تلك المباني، لا تحظى بثبات منطقي. فما تذهب إليه هذه المدرسة من أن العلم والعقل مغايران لحقيقة الإنسان، وما تؤمن به من تجرد هذين الاثنين تجرداً تاماً في مقابل قولها بمادية حقيقة الإنسان وجسمانيتها، إنما يستند إلى مرتكزات وأصول، ومبان نفسية، ومعرفية، ووجودية، ينبغي أن تخضع بدورها للدراسة المنهجية المنظمة التي يكون بمقدورها أن تتأكد من صحتها، أو سقمها عبر التحليل المنطقي والبحث الاستدلالي، ثم يُصار بعدئذ إلى تقويم طبيعة النتائج المترتبة عليها. والسؤال هو: هل بالمقدور إنجاز مثل هذه المهمة، من دون وجود منهج محدد، وجهاز معرفي؟ ثم ألا يؤثر كون هذا الجهاز من النوع الكلامي، أو الفلسفي، أو العرفاني؟
شاهدنا فيما سبق، أن الاتجاه التفكيكي عمد إلى تخطئة جميع الأجهزة المعرفية، بدعوى أنها تدخل في نطاق العلوم البشرية، وتندرج في سياقها ووضعها في علاقة تضاد مع العلوم الإلهية. والآن كيف يستطيع هذا الاتجاه أن يثبت مرتكزاته، ويسبغ على أصوله ومبانيه الصحة من خلال الاستدلال المنطقي، بعد أن ألغى قيمة الأجهزة المعرفية بجميع صنوفها؟ لا ريب في أن الإطلاقية التي تورط بها التفكيكيون في نفي العلوم البشرية تشمل نظريتهم أيضاً، إلاّ أن يعتصموا بضرب من التصديق والإثبات من دون معيار، إلى جوار القول بالاستمداد من "الفضل" الماورائي المطلق، ويفسروا نظريتهم، ويمنحوها قيمة على هذا الضوء!
6 ـ ما ذهبت إليه التفكيكية من تقسيم العلوم إلى قسمين عامين: بشري وإلهي، وإلى صدر وذيل، ثم افتراضها لعلاقة التقاطع بينهما، كل ذلك لا يؤدي إلى فضيلة العلوم الإلهية وعلوها، ورذيلة العلوم البشرية ودنوها، بل سيفضي إلى تراجع سمو التعاليم الإلهية. فعندما يُصار إلى تخطئة الفهم الإنساني بالكامل، ويحكم بالعبثية على أي جهد يمكن أن يبذله الإنسان فى الطريق إلى توظيف المواهب والإمكانات التي تنطوي عليها كينونته، بما في ذلك القوى الفكرية، فإن مثل هذه الرؤية، ستؤدي أولاً، إلى عبثية وجود هذه الإمكانات في بنية الإنسان وتكوينه الوجودي، مما يقود إلى بروز الشكية العلمية، ثم تكون ثانياً، سبباً لتدني مقام العلوم الإلهية وهبوط منزلتها؛ إذ لا مناص من التعاطي مع تلك العلوم وفهمها من خلال هذا المستوى الهابط من "الفهم البشري"، وعبر القوى الفكرية (المتواضعة) التي يحظى بها المخاطب بتلك العلوم.
ويبدو أن التغاير الطولي بين العلوم الإلهية، والعلوم البشرية، هو الذي أوهم التفكيكيين وجرّهم إلى عدّ ذلك التغاير تغايراً عرضياً، والتأسيس لمنطلقات كلامية على هذا الضوء، على حين كان يمكن تأمين الأهداف التي تتوخاها هذه المدرسة، من خلال الإيمان بالتغاير الطولي وحسب. فقضية الإعجاز القرآني ودوامه، وانطباق صفة "الحديث" (في مقابل القديم) على تعاليم القرآن ومعارفه، وامتلاء هذه الصفة بمعناها، ذلك كله كان يمكن تأمينه على نحو جيد، من خلال الإذعان إلى التغاير الطولي وحده، من دونما حاجة إلى دفع العلوم الإلهية، والبشرية نحو حالة من الصراع المطلق، والتقاطع الكامل والتباين الكلي فيما بينها.
ثم إننا إذا ما نأينا عن النظرة السلبية في التعاطي مع الفلسفة والعرفان الإسلامي، لوجدنا أن هذه الدائرة مليئة بالبحوث المتداولة في نطاق العلوم الإلهية، وهي كذلك مستمدة من قبسات الوحي والنصوص الإسلامية الغنية، بحيث يصعب إطلاق مصطلح العلوم البشرية عليها، ومن ثم تخطئتها وإلغاؤها!
7 ـ النقطة الأكثر غرابة في المرتكزات المعرفية للمدرسة التفكيكية هي ارتكازها إلى المباني الأشعرية، فتفسير سنة الله بعادة الله، والمساواة بين الاثنين ناشئ عن هذه النقطة بالذات. إن ما ذهب إليه التفكيكيون من محو الأسباب العادية، والطبيعية في المضمار المعرفي منبثق من ضعف المبنى في البحوث الوجودية. كما أن مناهضة الأجهزة الفلسفية الوجودية (كما هو حال الغزالي) يجر إلى الاتجاه الأشعري في نظرية المعرفة.
8 ـ تبرز القاعدة المنهجية الأساسية للمدرسة التفكيكية في مجال فهم الوحي، بالتخلي عن الفرضيات والأحكام المسبقة وتفريغ الذهن منها، والتوجه صوب الوحي بحالة من استقلال الفهم. أما كيفية استقلال الفهم، فقد تمثل في رؤية هذه المدرسة، بضرورة التوجه تلقاء نصوص الوحي قبل تلقي أي علم آخر.
أجل، إن الاستقلال في الفهم والتوجه صوب الوحي، من دون إقحام الفرضيات المسبقة ومن دون تحميل المسلمات الذهنية، هو شرط أساسي، ولازم لفهم الوحي، حيث يمكن التعبير عن هذه الحالة بصرافة الذهن وخلوصه. لكن ما يبتغيه التفكيكيون هو أمر غير هذا، هم يعنون البساطة الذهنية على ما يستشف من منظومتهم، على حين ليس هناك تعارض بين أن يكسب الإنسان جميع العلوم، وبين أن لا يفرض على الوحي أثناء فهمه مسبقاته الذهنية، ولا يسمح لها بتوجيه المعنى، بل يذهب تلقاء المفاهيم الدينية بصرافة وخلوص ذهني.
أكثر من ذلك، إن كسب العلوم والمعارف يحرر الذهن من البساطة، ويخرج الإدراك من مدار الفهم الابتدائي الساذج، وما تحرص عليه المدرسة التفكيكية من خلال توصيتها بحذف العلوم البشرية، هو الحفاظ على حالة البساطة والفهم الابتدائي!
هناك أمثلة للصرافة الذهنية، يمكن ملاحظتها في آثار كبار الفلاسفة والعرفاء، وهم يتعاملون مع النصوص الدينية، حيث يعد تفسير "الميزان" لكاتبٍ فيلسوف وعارف، مثالاً للنزاهة، ولصرافة الذهن في فهم الوحي فهماً خالصاً.
9 ـ صحيح أن التفقه في النصوص الدينية جميعاً أمر لازم وضروري، لكن ثَم فرق بين التفقه في باب الأحكام الفرعية، وبين التفقه في المعارف والعقائد. ما يلحظ من المسار العملي لسلوك كبار التفكيكيين، والتزامهم بالمنهج الأصولي، هو أنهم يؤمنون بضرورة وجود أصول عقلانية مستقلة، وقواعد مسبقة في باب الأحكام، يتم على أساسها الانطلاق صوب عملية الاستنباط، والتفقه في آيات الأحكام ورواياتها، من دون أن يعدوا ذلك تدخلاً للمسبقات الذهنية في استنباط الأحكام الشرعية. أما في مجال المعارف والعقائد، فتراهم يعدون بلورة أيٍّ أصل والارتكاز إليه مناهضاً للفهم الاستقلالي ومعارضاً له، ويوصون بضرورة التفقه بالآيات والروايات مباشرة، من دون تدخل القواعد المسبقة، ومن دون تعلم الفلسفة والعرفان مثلاً .
وإنه لَغَريبٌ أن تأتي هذه الرؤية في إطار جو ديني يفيد أن التعبد في باب الأحكام الفقهية هو المطلوب، في حين أن الضروري في المعارف هو اللجوء إلى البحث، والتحليل، والدراسة .
وأخيراً تحتاج الدراسة التفصيلية لمقولات المدرسة التفكيكية ودعاواها، وما تلتزم به من أدلة إلى بحث مستأنف يقع خارج نطاق هذه الدراسة، لذلك نكتفي بهذه النقاط.
مرتكزات فهم القرآن عند التفكيكيين الجُدد
1ـ فتحُ باب جديد
دأب بعض أنصار الاتجاه التفكيكي على تحميل معطياتهم الفكرية على التفكيكية، وهم بصدد تجديد رؤى هذا الاتجاه، وعرضه بطريقة حديثة تنطوي على الشمولية والثراء. لقد انتهت محاولات هؤلاء الباحثين المنفصلين عن رموز التفكيكية التقليديين إلى إسباغ اتجاه جديد على المدرسة لا يتواءَم بالكامل مع متبنياتها المعرفية والفلسفية(الأنطولوجية)، بل عمد التفكيكيون الجدد إلى إعادة بناء المدرسة، بما ينسجم مع ذوقهم ورؤاهم، وبادروا في بعض الحالات إلى إجراء تغييرات أساسية في بنية المدرسة وهياكلها، كما يومئ إلى ذلك النص التالي: "إن الفهم الوحياني ومحتوى الوحي ليسا في عرض الأوهام وتصورات العلوم البشرية واصطلاحاتها، بل هما في طولها". كذلك: "يمكن أن يتحول التعاطي الاجتهادي العميق مع الفلسفات إلى مقدمة لدخول البشر إلى أجواء الوحي، ودنياه السامية، ومعالمه العظيمة وإلى تعاليم الأوصياء"[48].
ينبغي النظر إلى هذه النصوص، وما تنطوي عليه من رؤىً بعد وضعها إلى جوار ادعاءات كتلك التي تقول بالتباين الكلي بين العلوم البشرية (الفلسفة والعرفان)، وبين العلوم الإلهية (الوحي والقرآن)، والتي تزعم أنه ليس هناك وجه جامع قط بين الاثنين، لا على مستوى المنهج ولا في الأدوات ولا على مستوى المسائل، والنتائج، ليتبين من خلال هذه المقارنة مدى الانسجام في التنظير الفكري داخل هذه المدرسة.
لنضع النص الذي قرأناه قبل قليل إلى جوار النص التالي، ثم نقارن بينهما: "لا جامع بين العلوم البشرية، والعلوم الجديدة في شيء من الأشياء"[49]. ثم لنقارن ثانيةً بين هذا النص الأخير وبين النص التالي لأحد رموز التفكيكية الجدد، وهو يسجل الادعاء الصريح التالي: "إن التفكيك على أسس علمية بين المناهج المعرفية الثلاثة الفلسفية، والعرفانية، والوحيانية، للحؤول دون الالتقاط والتأويل، لا يعني مطلقاً تباين معطيات الوحي مع معطيات الفلسفة الإسلامية والعرفان المألوف، بل معناه في الأغلب عدم التساوي بينها"[50].
إن هذا الاختلاف وعدم التناسق بين المنظرين القدماء، والأنصار الجدد هو الذي يملي دراسة النظريات الجديدة على نحو منفصل، وإخضاعها للدراسة بشكل مستقل.
بيد أن ذلك لا يعني عدم وجود عناصر مشتركة بين الجيل الجديد وأسلافه القدماء. فمن هذه العناصر التي تبرز واضحة بين الاثنين هو الموقف من توظيف الفكر الفلسفي، واستعمال العقل الفلسفي في مضمار فهم القرآن، حيث يشترك الفريقان في عدّ هذه الممارسة مساوقة للتأويل [منظوراً إليه بمعنىً سلبي]، والتصرف في ظهورات نصوص الوحي. ولقد كان ادعاء المتقدمين يتمركز حول المعنى التالي: "ما ذهب إليه فريق من الفلاسفة والرموز الكبار من أن توحيد القرآن والحديث هو توحيد وحدة الوجود، إنما هو ناشئ عن أخذهم هذه الفكرة من الخارج بدءاً، ثم سعيهم إلى التوفيق بينها، وبين القرآن والحديث، انتبهوا لذلك أم لم ينتبهوا"[51].
أما المتأخرون والأنصار الجُدُد، فقد ذهبوا هم أيضاً إلى وجود الاختلاف الفاحش بين الفهم الفلسفي للقرآن، وبين الفهم القرآني الخالص، فالفهم الفلسفي لا يعدو بنظرهم تأويل القرآن الكريم والتصرف فيه، كما تنطق بذلك إحدى النصوص الدالة: "إن التصرف بالقرآن وتأويل آياته يبعدك عن القرآن ويحول بينك وبينه، ثم يسوقك صوب الفهم الفلسفي بدعوى الفهم البرهاني للقرآن"[52].
أيضاً: "يحتوي القرآن الكريم في داخله على منظومة برهانية عقلية وفطرية، ومن ثم ليس هناك حاجة تدعو لخلطه مع الفلسفات، أيَّ فلسفة كانت، ومع التصورات والرؤى أياً ما كانت"[53].
ويبرز العنصر المشترك الآخر بين القدماء والمحدثين في هذه المدرسة بدعوة الاثنين إلى البساطة الذهنية في فهم القرآن، انطلاقاً من التصور الذي يفيد بأن القرآن لا يحتاج فهمه إلى أي نظام أو جهاز عقلاني على ما يذهب إليه المحدثون. أما القدماء، فقد أسسوا لمبدأ البساطة الذهنية انطلاقاً من محورية الله في المعرفة بالصيغة التي سلفت إليها الإشارة.
يكتب أحد الرموز الجُدد: "ينبغي فهم لغة معارف القرآن من خلال القرآن نفسه، والأحاديث والأدعية المعتبرة التي هي بمنزلة التفسير الصحيح للقرآن، لاكتساب الفهم القرآني الخالص والتعقّل بالقرآن نفسه"[54].
أيضاً: "ينبغي لنا أن نتعلم أصول العقائد الموجودة وما يرتبط بها من معارف بصيغة استدلالية، وندركها من خلال العقل العادي، والطبيعي (وليس العقل المشوب باصطلاحات العلوم وبالمعارف المختلفة والمتضادة)"[55].
كذلك: "من الثابت أن هناك طرقاً للتفقه في الدين وتعقله، الطريق الصحيح منها واحد جزماً، فالطريق الصحيح لتعلم الدين وتناول حقائقه يتمثل بأخذها من القرآن، وأهل القرآن"[56].
والآن، حيث لا يعد عنصر التذكير كافياً وحده، وحيث تملي الحاجة ضم التعقل إليه، فما الذي ينبغي فعله، وأدعياء العقل والعقلانية كثر، بل تذهب كل فرقة من الفرق المتخاصمة في الإسلام إلى أن مدعياتها هي حصيلة لتعقل القرآن والتفكير به؟! يملي هذا الواقع التقدم خطوة نحو الأمام، وعرض منهج التعقل الوحياني، وطريقة التفكير الصحيحة المستمدة من الوحي، لكي ينقطع الطريق على أنماط التفكير الأخرى، ومن ثم لا تعرض نفسها بوصفها طريقة التفكير المطلوبة.
لاستخراج المنهج المنشود لا مناص من التوجه صوب القرآن نفسه: "من الجلي أن كتاباً كالقرآن، عندما يدعو إلى التعقل ويتخذ من العقل معياراً، لا يمكن أن لا يكون له منهج في التعقل. فمن خلال قوله: ?أفلا تعقلون? أبان أن الأساس هو الفهم العقلي والاستقلالي، ومنه يتضح أن للقرآن الكريم منهجه الخاص في التعقل، وأن الطريق الصحيح إليه يكمن يقيناً في القرآن، وفي تعاليم المفسرين الحقيقيين للقرآن"[57].
يتضح مما مر أن العقل هو أهم عامل، وهو الأداة اللازمة لدرك الحقائق لا لكشفها[58]. ومادام المقصود من العقل معنى آخر غير العقل الفلسفي، فينبغي إذاً البحث عن المطلوب وتبيينه من خلال مصطلحات مثل العقل الفطري، والعقل البشري العام، والتعقل المعتمد على الوحي وما شابه.
2 ـ معالم العقل الفطري
1-2- الرجوع إلى الوحي مباشرة
من يتوجه إلى تعقل القرآن مباشرة من دون اطلاع على النظم الفلسفية، أو استعمالاتها، يكون قد استخدم العقل الفطري: "التعقل في القرآن الكريم وتدبر آياته وفهمها، تصل الإنسان المتأمل بالقرآن وتستقطبه إلى فضائه، ومن ثم تقطعه عن دائرة الأفكار والتصورات، والفرضيات المسبقة، وتدفعه صوب آفاق المعارف الحقيقية، وتبلغ به نحو البراهين الربانية، وهذا عين التعقل ومقتضى العقلانية"[59].
وبعبارة أخرى، إن المقصود من التعقل الفطري هو تنبيه الفطرة واستجاشتها مما يبعث على استثارة دفائن العقول. على أن أهم معالم العقل الفطري هو تعميم استخدامه على مستوى المجتمع برمته، مما يجعله مختلفاً مع ضروب العقلانية المألوفة على الصعيد الفلسفي والعلمي، حيث تقتصر هذه الأخيرة على نفر خاص هم الذين بمقدورهم التعاطي معها، على حين يتعاطى الجميع مع نمط العقلانية الفطرية: "ما حث عليه القرآن الكريم والأحاديث هو التعقل الفطري، فهذان حثا الناس على هذا النمط من التعقل، واستجاشا الفطرة ونبّهاها، وأثارا دفائن العقول، ومن ثم، فإن القرآن والحديث لم يدعُوَا إلى الالتزام بضروب التعقل الاصطلاحي المألوف في دائرة العلوم، والفلسفات المختلفة، مما هو محدود بقلة قليلة في كل مجتمع"[60].
2-2- عدم انتظام العقل الفطري
من المعالم الأخرى التي جاءت لتفسير التعقل الفطري هو عدم اندراجه في نسق محدد كما هو شأن النظم السائدة في مجال التعقل الأدبي والفكري، وعدم خضوعه لنظم خاص. فالتعقل الفطري هو ضرب من التعقل يتحرك خارج نطاق الاصطلاحات المتداولة، سواء أكانت هذه اصطلاحات فلسفية، أم علمية، أم تجريبية[61]. وعدم انتظام هذا التعقل في نطاق نظم خاص، يورث هذا النمط من التفكير خصائص متفردة ويهبه مزايا لا مثيل لها: "التعقل الفطري هو ممارسة التعقل في مدار مفتوح في حين أن ضروب التعقل الأخرى هي ممارسة للتعقل في مدار مغلق. فهناك في كل اتجاه فكري، ولكل نزعة فلسفية شرقية كانت أم غربية، وقديمة أم جديدة، إطار فكري خاص يسمح بتداول نوع معين من الصيغ والمعطيات، حيث يتعين على أصحاب هذه النزعة، أو الاتجاه أن يمارسوا عملية التفكير في إطار تلك المفاهيم والاصطلاحات. فهذه الحالة المغلقة والتفكير في إطار فكري محدد موجودان في كل النزعات والاتجاهات، حتى لو كان ذلك صحيحاً. أما في نمط التعقل الفطري، فليس الأمر كذلك؛ لأن الفطرة ترتبط في أصلها بحقائق عالم الوجود اللامتناهية، وتتصل بالفيض الوجودي المستمر من خلال حالة الأواني المستطرقة، ومن ثم، فإن هذه الموانع المختلفة والتدافعات الذهنية التي تمليها الأطر والنطاقات المحددة في الاتجاهات والنزعات الأخرى لا تسمح للفطرة أن تبقى بعيداً عن الغواشي بحيث تأخذ الحقائق من خلال حالة الشهود الفطري"[62].
3 -2- نتيجة استعمال العقل الفطري
تتمثل واحدة أخرى من معالم التعقل الفطري بالحصيلة المترتبة عليه؛ فمعرفة الذات بالذات هي نتيجة حاصلة من التعقل الفطري. هذا النمط من المعرفة، المتمثل في أن الله هو الذي ينبغي أن يهبه إلى الآخرين من دون واسطة، أو بأي واسطة، يراها ضرورية من قبيل بعث الأنبياء والوحي، أو عن طريق آياته في الآفاق أو الأنفس؛ هذا النمط من المعرفة هو نتيجة لاختيار "مبدأ محورية الله المحضة" في المعرفة، كما مرت الإشارة إليه مسبقاً. مردّ ذلك أن المعرفة هي صنع الله كما يذهب إليه قدماء المدرسة التفكيكية، وأنه ليس هناك تأثير يذكر لا للعلم الكسبي، ولا للعمل والعبادة في التهيئة للمعرفة أو انبثاقها. وبحسب اللغة العلمية، إن هذه العناصر ليست علة مُعِدّة، ولا علة موجبة للمعرفة، ومادامت هذه المعرفة فرعية، فيمكن التعبير عنها بالشهود الفطري أيضاً.
4- 2- التعقل الوحياني
من الخصائص الأخرى التي استخدمت لتفسير التعقل الفطري، هو مصطلح "التعقل الوحياني". تمت الإشارة إلى أن للتعقل ثلاث شعب منفصلة هي التعقل الوحياني، والتعقل الفلسفي والتعقل العلمي. ومع الإقرار بأن هذه الأنساق الثلاثة تقع في طول بعضها، فإن التعقل الوحياني يأتي في أعلى مراحل التعقل، ويقع في الذروة منها. أما العنصر الحاسم الذي يحدّد اسم كل نسق من هذه الأنساق، فيعود إلى النطاق الذي تستخدم به قوة العقل والأرضية التي يتحرك بها التعقل. فاستخدام العقل في نطاق المسائل التجربية يفضي إلى بروز التعقل العلمي، واستخدامه في نطاق المسائل الفلسفية يؤدي إلى تبلور التعقل الفلسفي، أما استخدام العقل في نصوص الوحي والتعمق في مطالبه، فهو يساوي التعقل الوحياني.
على الصعيد النوعي يعد التعقل الوحياني أرقى مرحلة على خط التعقل. والسبب في ذلك أن التعقل الفلسفي يستمد رصيده من العقل المحدود (العقل الجزئي)، في حين أن التعقل الوحياني يستمد رصيده في العمل، من عقلٍ لا محدود، هو (العقل الكلي)[63].
لكي تتجلى للعيان محدودية العقل البشري وضيقه، من الضروري الانتباه إلى أن العقل ليس جديراً بإدراك جميع حقائق الوجود. فهناك مرحلتان للعقل هو كفؤ في الأولى وجدير بها، وليس بكفؤ في الأخرى؛ وعدم جدارة العقل وكفاءته تعني ضيقه ومحدوديته. إن المحدودية تعني أن العقل لا يملك قدرة الإدراك تلقائياً: "كذلك هي حقائق عالم الوجود، فبعضها يقع في ظل شعاع العقل، وبعضها الآخر خارجه. بشأن الحقائق الثانية يحتاج العقل الإنساني إلى من هم فوق مستوى الإنسان العادي، لكي يرشده إلى تلك الحقائق ويجعله محيطاً بها. على سبيل المثال نستطيع القول إن بمقدور العقل أن يذعن بنفسه إلى أصل وجود الله، ويدرك هذا الأصل تلقائياً، بيد أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى خصوصيات الله؛ أي الصفات الإلهية، وطبيعة هذه الصفات، والفعل، والإرادة، وما إلى ذلك"[64].
5-2- عمق العقل وسطحيته
التركيز على الاختلاف بين ضروب التعقل يبين بنفسه مستوى التعقل الفطري الذي يستخدم في مجال الوحي: "يستفاد في الفلسفات من سطح العقل [أي قشرته وحدّه الأدنى]، أما الوحي، فينقل الإنسان إلى عمق العقل، ويقوم بتنشيط جميع استعدادات عقل الإنسان وتفعيلها"[65].
وأيضاً:
"إن كل هذا التأكيد الذي يمارسه القرآن الكريم، والأحاديث في حثهما على الاستفادة من العقل واستخدامه، إنما هو بمعنى الانتفاع من عمق العقل، وإلاّ فإن جميع أفراد البشرية يستفيدون من العقل بشكل عام وعلى المستوى الكلي، يستوي في ذلك حتى أبسط الناس، بل وحتى الفتية والصبيان"[66].
مادام الحديث يدور عن العمق، فمن البديهي أن ذلك يقتصر على مجموعة خاصة هي التي تبلغ تلك الآماد، حيث يكون الدَّرْك العميق للوحي من نصيب ثلة محددة: "ما له أهمية اكبر بالنسبة إلى خواص البشر، ومفكري النخبة، هو السعي للانتفاع من العقل انتفاعاً خاصاً وكاملاً، والاستفادة منه على نحو أكثر وأعمق، وتخطي تخوم العقل العام وتجاوز سطح العقل"[67].
لقد جاء هذا الكلام لمواجهة تلك الرؤى التي عمدت لضرب التعقل الفلسفي بوصفه نمطاً من التفكير الذي يستفيد منه جماعة خاصة، ومن ثم يفضي وبسبب حرمان بقية أفراد البشر منه إلى الانفصال عن التعقل الفطري المطلوب في مضمار الوحي، ليؤكد بعد ذلك على أن التعقل في الوحي، هو أمر عام تستفيد منه البشرية جمعاء: "لقد ركز القرآن الكريم والأحاديث على الرجوع إلى العقل والانتفاع به. وليس المقصود بذلك العقل الفلسفي الصناعي المأنوس باصطلاحات هذه الفلسفة أو تلك، مما تتعاطاه في كل عصر عدة ضئيلة من الناس، بل المراد هو العقل البشري العام الذي له أساس في العقل الفطري، حيث من الضروري أن يتم فهم أصول الدين وحقائقه من خلال العقل الفطري هذا"[68].
6 –2- معنى التعقل الفطري نفي الفلسفات
تتمثل الحصيلة الأخيرة في تبيين العقل الفطري، في اجتماع أوصافه كلها في خصلة واحدة هي صدامه مع الفلسفات ومناهضته للاتجاهات الفلسفية. فمثل هذا السلوك الصدامي هو الذي يرفع الإنسان إلى مستوى التفكير الوحياني العميق، ويسوقه صوب فهم النص الديني فهماً خالصاً: "يمكن أن يتحول التعامل الاجتهادي العميق مع الفلسفات إلى مقدمة تؤهل الإنسان للدخول في أفق معالم الوحي الرفيعة، والنفوذ إلى تعاليم الأوصياء"[69].
وأيضاً: "معنى استخدام العقل بالنسبة لأهل الفكر والنظر هو نفسه التعامل الاجتهادي النقدي مع الآراء والنظريات الفلسفية، والعلمية؛ والاجتهاد حيال هذه الآراء والنظريات وترك التقليد والتعبّد في العقليات"[70].
3 ـ الاجتهاد فى معنيين
يعتمد فهم القرآن الكريم في هذه المدرسة على مثل هذا التفسير للتعقل والعقلانية: "ينبغي أن يكون فهم القرآن الكريم في المعارف فهماً تعقلياً واستقلالياً، وليس تبعياً وتقليدياً"[71].
والمقصود من "الاجتهاد" هو تعقل من هذا النمط. بالرغم من أن الاجتهاد مصطلح معروف ومحدّد الدلالة بالنسبة للمطلعين، بيد أن الالتفات إلى الاختلاف الاستعمالي والمعنائي الذي يكتنف المصطلح في المجالات المختلفة، هو أمر ينطوي على ضرورة قصوى، فالاجتهاد في الأحكام الفرعية لا يستوي في هذه المدرسة مع الاجتهاد في باب المعارف؛ فهو وإن كان حتمياً في المجالين، إلاّ أن له أسلوبه الخاص في كل حقل، حتى أنه يمكن القول: إن الاشتراك اللفظي للمصطلح بين الحقلين هو لإفهام معنىً خاص؛ إذ له في كل مجال من المجالين معنىً مستقل عن الآخر: "المنهج العلمي والصحيح في فهم المعارف وفي استنباط الأحكام معاً، هو منهج التعقل والاجتهاد. لكن ينبغي الالتفات إلى أن الاجتهاد في العقائد والمعارف الإعتقادية غير الاجتهاد في الأحكام الفقهية، واستنباط الأحكام. فالاجتهاد في العقائد ليس بمعنى الاستنباط، بل بمعنى الاستدلال؛ أي إن علينا أن نأخذ أصول العقائد الموجودة، والمعارف ذات الصلة بها على نحو استدلالي ومن خلال العقل العادي الطبيعي (وليس العقل المشوب باصطلاحات العلوم والمعارف المختلفة والمتضادة)"[72].
إن الإيماء إلى اختلاف الاجتهاد بين البابَين يتطلب توضيحاً أكثر؛ والسبب في ذلك أنه مع إبعاد الاجتهاد المألوف في باب الأحكام عن دائرة العقائد والمعارف، لا مناص من اتهام الاتجاه التفكيكي بالأخبارية. لكن يبقى هناك اختلاف بين المسلك الأخباري والمسار الذي تنتهجه التفكيكية، يتمثل في أن الأخبارية مصطلح أطلق على الاتجاه الذي نأى عن استخدام الاجتهاد المألوف في باب الأحكام. أما تعميم نزعة نفي الاجتهاد، بحيث تشمل مجال المعارف، فلا يعني تسرية وصف الأخبارية إلى التفكيكية، بحيث يكون مسار الاثنين مشتركاً وواحداً: "يستخدم اصطلاح "الأخباري" في مقابل الأصولي والمجتهد، وهو يرتبط بدائرة علم الفقه، وروايات الأحكام الفرعية التي هي موضع الاجتهاد، وإعمال النظر، وإظهار الرأي والفتوى"[73].
لقد آمنت التفكيكية بثبات الاجتهاد القائم على استخدام مجموعة من القواعد المسبقة في مجال معين، في حين أن نبذ تلك القواعد والتمسك بظواهر الأخبار، هو الذي يعكس المنهجية الأخبارية: "يقبل الأخباريون استنباط الأحكام الفرعية من الكتاب والسنة، إذا حُذِف العقل والإجماع وبقية القواعد"[74].
ينتهي الرأي الناتج عن اختلاف الاجتهاد في البابَين إلى ما يلي: "لا يمكن القول إن على كل إنسان أن يجتهد في أصول العقائد، بحيث يعتقد بكل ما ينتهي إليه نظره، ثم يقلّده الآخرون فيما انتهى إليه"[75].
ثَم في مقابل هذه الرؤية رؤية أخرى تدعو كل إنسان، إلى أن يبحث الحقائق الإعتقادية، ويدرسها على قدر استعداده، وينتهي إلى تبنيها بتشخيصه ومن دون تقليد: "ينبغي أن نصل في العقائد إلى العقائد الواقعية، فنتبنى ما هو ثابت ونجعله عقيدتنا، لكي يكون تصورنا لله سبحانه ولصفاته... متطابقاً بأجمعه مع الواقع... ومن الطبيعي أنه يتعين على كل إنسان أن يمارس البحث في الحقائق الإعتقادية على قدر استعداده، ويؤمن بها من خلال التشخيص المستقل دونما تقليد فيها"[76].
4- المحصلة الأخيرة
بنفي الاجتهاد المألوف في باب المعارف، تكون التفكيكية، قد آمنت بأصلين اثنين إلى جوار بعضهما لفهم الدين والتفقه فيه، هما "التعقل" و"الاستناد". لقد مر تفصيلاً ما تقصده هذه المدرسة من التفقه والتعقل.
والآن ومن خلال التركيز على تفاصيل استعمال التعقل، وكيفية ذلك يثبت المعنى المذكور، ولنقرأ هذا النص: "معنى التفقه في الدين هو الفهم المنظومي (المجموعي) الشامل للدين، والتفقه هو الصورة المعمقة الهادفة من التعقل"[77].
ما يحتاج إلى التأكيد، هو الفهم الاستقلالي للوحي؛ على أن التوصية بالبساطة الذهنية ـ وليس صرافة الذهن ـ هي نتيجة إشاعة هذا الضرب من الفهم، وترويج مثل هذه الرؤية للوحي.
بديهي أن الاستفادة من الأجهزة المعرفية، بل حتى الاصطلاحات والأدوات الأدبية لا ينسجم مع بساطة الفهم المطلوبة؛ لأن مثل هذه العملية، لو تمت ستكون باعثاً إلى بروز الخلط الفكري والتلوث الذهني، كما ستكون سبباً لتبعية الوحي وانقياده لتلك الأجهزة المعرفية: "إن التوفيق بين معطيات الوحي ومعطيات العقل، ونتائجه يستوجب حرمان الإنسان من الوصول إلى المرحلة العليا من المعرفة"[78].
أيضاً: "ينبغي فهم تلك الواقعيات الحقة بفهم استقلالي، ومن خلال التأمل في كلام الوحي، وتعقل الآيات الإلهية، والروايات، وكذلك بقية الآيات، والدلالات التوحيدية"[79].
الآن، وحيث بات التعقل في الوحي، هو المثال الذي تطمح إليه هذه المدرسة، ينبغي الإجابة عن هذا السؤال: تم التأكيد على أن العقائد الحقة المطابقة للواقع ينبغي للإنسان أن يبلغها من خلال التفقه،والتعقل الاستقلالي، والدرك الشخصي. بيد أننا نعرف أن أكثر ما بين أيدينا من الوحي، هو ظواهر [كلام يدل على معنى رغم احتماله لمعنى آخر] وليس نصوصاً قطعية وبديهية، ومن ثَم هناك احتمال للخلاف في أي ظهور. إذا أضفنا إلى ذلك أن المطلوب في العقائد هو الثبات والقطعية، فكيف يمكن بلوغ مثل هذا المقصد الأعلى، عبر التأمل في الظهورات؟ تمثلت إجابة هذه المدرسة بعدم اختصاص حجية الظواهر في باب الأحكام الفقهية وحده، ومن خلال مدّ دلالة الظواهر وتعميم حجيتها عمدت إلى غلق المشكلة وحسمها نهائياً: "لا تنحصر حجية الظواهر بالآيات، والأخبار الفقهية، وبالأحكام وحدها، بل هي تجري في آيات العقائد وأخبارها، وتمتد إلى المعارف أيضاً"[80].
أيضاً: "إن التمسك بالأخبار والأحاديث في باب المعارف والعقائد يعد بنفسه أصلاً ركيناً"[81].
إن ما يؤمّن الأصل الثاني الذي ترتكز إليه التفكيكية في فهم الوحي هو مبدأ "الاستناد إلى النصوص الدينية". على أنه ينبغي أن تُعَدَّ الظواهر في باب العقائد هي المراد الواقعي، والمقصود من الظاهر هو المفهوم اللفظي نفسه الذي يريده العرف: "مقتضى الظاهر ومعناه والمراد منه هو المفهوم اللفظي، والمتعارف للآيات والأخبار"[82].
بصراحة هذه العبارة، يكفي المعنى اللغوي للألفاظ والفهم العرفي لها، لكي يدرك الإنسان، ويصل إلى ما تريده الظواهر بوصفها مرادات قطعية في باب المعارف العقيدية. هذا الكلام في حقيقته تعبير آخر عن التأكيد على مبدأ البساطة الذهنية في فهم الوحي. وما سوى ذلك، تغدو كل عملية إمعان نظر واستعمال للدقة تأويلاً ظاهراً، والتأويل مساوق للإنكار، لا يمكن الإذعان له إلاّ لضرورة.
هذه هي حصيلة عرض منهج فهم الوحي، وتوضيحه في هذه المدرسة، هذا المنهج يبتني على أساسين لا مناص منهما لفهم الوحي، بحيث تفتقر أي حصيلة تَنْتُج بعيداً عن هذين الأصلين، وبمعزل عنهما، إلى صفة المعرفة. هذان الأصلان هما:
1 ـ التعقل.
2 ـ الاستناد
"التعقل" هو الاستدلال، أما "الاستناد"، فهو الرجوع مباشرة إلى النصوص الدينية والتعاطي مباشرة مع المصادر الأصلية للوحي والدين: "إذا لم تبتن المعرفة الدينية على التعقل (أو الجزم القاطع) فهي تقليد، والتقليد في معرض التغيير. ثم إذا لم تبتن معرفة الدين على الاستناد، فهي توجيه، والتوجيه يقع في معرض الانحراف"[83].
تأملات نقدية
ثَمّ نقاط يمكن تسجيلها حيال رؤى متأخري المدرسة التفكيكية، نسوقها كما يلي:
1 ـ الحديث حول العموميات صفة تلقي بظلالها على آثار التفكيكيين الجدد ومصنفاتهم، وهذه الصفة تتجلى أكثر في كتابات الجدد حيال شخصيات هذه المدرسة وآثارها ورؤاها، كما تلحظ أيضاً في ردود هؤلاء على نظريات الفلاسفة والعرفاء. أما بعض الكتابات في التعريف بالاتجاه التفكيكي، فهي تعد في نفسها من الروائع الأدبية والوصفية، قبل أن تكون بحثاً علمياً في الموضوع.
لقد مرت علينا مصطلحات كالعقل الفطري، والعقل البشري العام، والتعقل في مدار مفتوح وفي مدار مغلق، وسطح العقل وعمقه، وغير ذلك من المصطلحات التي جيء بها الواحد تلو الآخر لوصف المسار التفكيكي، من دون أن تحمل للقارئ محتوىً محدداً، ناهيك عن أنها لم ترد إلاّ قليلاً في كتابات أوائل التفكيكيين، حيث لا نكاد نعثر على هذه التعاريف في أفكار القدماء ورؤاهم.
2 ـ تمت الإشارة في متن البحث إلى عدد من التناقضات؛ تناقضات القائل مع نفسه، وتناقضاته أيضاً مع مواقف وأقوال الذين يتحدث عنهم، وينطق باسمهم. على سبيل المثال، فيما كان أسلافه يعتقدون بالتباين الكلي بين الفلسفة والعرفان من جهة، وبين الوحي من جهة أخرى، تراه قد عد العلاقة بين الاثنين على أنها "عدم التساوي الكلي"، من دون أن يسند هذا الموقف الجديد إلى مصدر محدد من كتابات السابقين وأسلافهم. على أن صرف دراسة الفلسفة وتدريسها من قبل أولئك لا يثبت المدّعى، ولا يستبدل موقفهم الصدامي المناهض إلى موقف نقدي .
3 ـ إن أدنى معرفة بالفلسفة والعرفان الإسلامي، تثير أسئلة واستفهامات إزاء مدعيات هذه المدرسة وأقاويلها. وإلاّ على أي أساس علمي أو عيني، تمت مساوقة الفهم الفلسفي بالتأويل؟ وعدّ الفلسفة مولوداً للتأويل وللتصرف في الآيات والروايات؟ ثم الزعم أن فهم القرآن والوحي ليس بحاجة إلى جهاز، أو نظام عقلي؟ وما هو الرصيد العلمي والعيني الذي تستند إليه هذه الدعاوى والمقولات ؟
إن هذا النمط من الطرح، وإن كان مؤثراً في جذب البسطاء، ومن ليس لهم معرفة بالمسائل العرفانية، إلاّ أن الواجب كان يملي عرض نماذج عملية واضحة ومحددة من تأريخ الفلسفة الإسلامية تدعم تلك الدعاوى، وتثبت صحتها. تُرى أي فيلسوف إسلامي هذا الذي كانت أفكاره تأويلاً برمّتها، وإنه انتهى إلى الفهم الفلسفي للقرآن بذريعة الفهم البرهاني له؟
إذا ما كان بالإمكان عرض ادّعاء صحيح على هذا الصعيد، فيمكن: القول إن أي ضرب من التصرف في الآيات والروايات يستتبع الانحراف، ويجرّ إلى الخروج عن محتواها، لا أنه يجرّ إلى الفهم الفلسفي. وفي المقابل، فإن التعاطي مع الآيات والروايات مباشرة من دون إعداد المقدمات العقلية اللازمة، والأدوات الفكرية يعبّر هو أيضاً عن الوجه الآخر لسكة الانحراف.
إن تأريخ العقائد الكلامية، والفرق المتنوعة حافل بهذا النمط من الاستبداد الفكري في فهم القرآن برغم عودة كل واحدة من هذه الفرق والعقائد إلى القرآن مباشرة!
4 ـ في المسار الذي انتهجته هذه المدرسة لبناء منهجها في فهم القرآن، من خلال دعوتها إلى ضرورة استمداد الطريق والمنهج من القرآن أيضاً، ومن ثَم دعوة الناس للرجوع إلى أهل القرآن؛ عمدت في الحقيقة إلى متابعة النهج ذاته الذي سلكه الأخباريون في الأحكام الفرعية، عندما تهربوا من ممارسة الاستنباط والاجتهاد الأصولي، وعدوا العودة إلى المصادر والنصوص كافية لبلوغ الحكم الشرعي، معتبرين ممارستهم هذه تعقلاً، بل وحتى تفقهاً! لكن هل تعد مثل هذه الدعوة كافية للاستخفاف بالمناهج العلمية والعقلية الرائجة في باب المعارف والعقائد، وإظهارها بصورة سلبية ؟ ثم هل الحكم الفصل في فهم القرآن وتصديقه هو القرآن نفسه ؟ أو بتعبير آخر النصوص الدينية ذاتها؟ هل تنفع الحجة الظاهرة من دون الحجة الباطنة (العقل)؟ من الثابت أن هذا الحكم الفصل والحاكم النهائي هو العقل، وحيث إن الأمر كذلك لا بدّ أن يكون الحاكم هو العقل المنهجي المزوّد بالأدوات الأصولية اللازمة، وإلا فمن دونه لا شيء سوى الظن والتخرّص.
إن هذه المدرسة وإن استطاعت أن تعلنها حرباً شعواء ضدّ الاتجاهات الفلسفية والعرفانية المتداولة على هذا الصعيد، إلاّ أنها لم تستطع أن تحقق نجاحاً يذكر على مستوى إراءة طريق عملي ومحسوس لفهم الوحي، بل اكتفت ببيان كلي يدعو للعودة إلى القرآن وأهل القرآن.
5 ـ الفصل بين منهج استنباط الأحكام الفرعية، وبين فهم العقائد والمعارف والتأكيد في الوقت نفسه على استخدام الاجتهاد والتفقه في كلا الحقلين، هو كلام متهافت. إن هذا الكلام وإن كان تكراراً لادّعاء المتقدمين، إلا أنه ينطوي على وجه تمايز يتمثل، بأن استعمال الاجتهاد في باب الأحكام يكون من أجل تقليد الآخرين، على حين لا معنى للتقليد في باب العقائد، ومن ثم لا معنى للاجتهاد نفسه. هذا الكلام وإن كان صحيحاً إلى حد ما على مستوى هدف الاجتهاد، والفائدة منه، إلاّ أنه لا يصدق مطلقاً على أصول الاجتهاد والقواعد التي يستند إليها، فالاجتهاد في كلا البابين يحتاج إلى الأصول اللازمة، من دون أيِّ فرق بين الاثنين، وإلاّ سيفضي استخدام الفكر من دون وجود أدوات لازمة في كل باب، إلى الاستحسان وتحكيم الأذواق، ولن تكون هذه العملية عندها اجتهاداً.
الأطرف من ذلك، أن الاجتهاد في باب العقائد اكتسب معنىً آخر على خلفية نفي التقليد في هذا الباب. وفي الوقت نفسه ادّعوا أن على كل شخص أن يبادر إلى الدراسة والتحقيق على قدر استعداده، وأن يتبنى العقائد على ضوء تشخيصه، ثم انعطفوا ثانياً، للقول بأنه لا يجوز لكل إنسان أن يتبنى في باب المعارف كل ما ينتهي إليه تشخيصه، ويرسو عليه اجتهاده من العقائد!
6 ـ النقطة الأساسية التي تلفت النظر والتي لها دور مصيري على المنظومة الفكرية لهذا الاتجاه، تمثلت بطرح حجية الظواهر في باب المعارف والعقائد، حيث تم عرض ذلك من قبل إنسان يؤكد بنفسه على أهمية بلوغ العقائد الواقعية. فهل الرجوع إلى ظواهر الكتاب السنة يوصل إلى المعارف الواقعية؟ وهل صرف المفهوم اللفظي من الظواهر ومعناه المتعارف يؤدي إلى نيل العقائد الواقعية؟ يبدو أن خلط مبحث الأحكام والعقائد والمساواة بين البابين على غير أساس، صار سبباً للارتضاء بالظواهر والاستناد إليها. ليس هناك معنىً للحجية أو مفاد، سوى التعبد، ومادام الأمر كذلك، فإنها تكون مثمرة في المواقع التي يكون فيها العمل بالظاهر والاستناد إليه هو المطلوب، لا بلوغ الواقع.
ولماّ كان هذا الاتجاه يؤكد بنفسه على أن مبتغاه هو ضرورة الوصول إلى المعارف الواقعية من خلال الفهم الاستقلالي، فكيف تكون القناعة بالتعبد وحجية الظواهر موصلين إلى الواقع في هذا المجال!
_____________________
* يطلق اصطلاح المدرسة التفكيكية في الفكر الإيراني الإسلامي على اتجاه يدعو إلى فهم النصوص الدينية بعيداً عن العقل والفلسفة، ومن هنا أتت التسمية؛ وذلك لأنه يدعو إلى التفكيك بين الفلسفة ونصوص الوحي. ولا يشترك هذا الاتجاه مع التفكيكية الغربية إلاّ بالاسم فقط. (المحرر)
[1] مرواريد، الشيخ حسن علي، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، مؤسسة الدراسات الإسلامية، 1416هـ ، ص 8 .
[2] المصدر نفسه، ص 8.
[3] المصدر نفسه، ص 10.
[4] المصدر نفسه، ص 11 .
[5] المصدر نفسه، ص 11 .
[6] المصدر نفسه، ص 240 .
[7] المصدر نفسه، ص 11 .
[8] الأصفهاني، الشيخ مهدي، رسالة إعجاز القرآن (نسخة خطية)، المكتبة المركزية للحرم الرضوي، مدينة مشهد، الرقم 12412، ص 7.
[9] القزويني، الشيخ مجتبى، بيان الفرقان، مركز التعليمات الإسلامية، طهران، 1373هـ.
[10] المصدر نفسه، ج1، ص 57.
[11] مرواريد، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص 30.
[12] المصدر نفسه، ص 30.
[13] الطهراني، الشيخ جواد، ميزان المطالب، قم، مؤسسة في طريق الحق، 1995، ص 49؛ وأنظر القزويني، بيان الفرقان، ج1، ص 57.
[14] مرواريد، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص 23؛ وأنظر القزويني، بيان الفرقان، ج1، ص 60.
[15] الأصفهاني، معارف القرآن، ص 4.
[16] الأصفهاني، إعجاز القرآن، ص 7؛ والطهراني، ميزان المطالب، ص 57؛ وأنظر كذلك مرواريد، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص 15.
[17] القزويني، بيان الفرقان، ج1، ص 59.
[18] الأصفهاني، إعجاز القرآن، ص 8 .
[19] المصدر نفسه، ص 7.
[20] المصدر نفسه، ص 16.
[21] الأصفهاني، الشيخ مهدي، أبواب الهدى (نسخة خطية)، المكتبة المركزية للحرم الرضوي الشريف، الرقم 12412، ص 6.
[22] الأصفهاني، إعجاز القرآن، ص 16.
[23] إعجاز القرآن، ص 17.
[24] المصدر نفسه، ص 17.
[25] المصدر نفسه، ص 7.
[26] إعجاز القرآن ، ص 7.
[27] المصدر نفسه، ص 7.
[28] الطهراني،الشيخ جواد، عارف وصوفي چه مى گويند؟ [العارف والصوفي ماذا يقولان؟] ص 520-251 بالفارسية.
[29] الأصفهاني، إعجاز القرآن، ص 2.
[30] المصدر نفسه، ص 13.
[31] إعجاز القرآن، ص 13.
[32] الأصفهاني، التقريرات (نسخة خطية)، المكتبة المركزية للحرم الرضوي الشريف، مدينة مشهد، الرقم .1248، ص 26.
[33] المصدر نفسه، ص 22.
[34] المصدر نفسه، ص 27.
[35] المصدر نفسه، ص 193.
[36] المصدر نفسه، ص 13.
[37] الأصفهاني، رسالة إعجاز القرآن، ص 13.
[38] مرواريد، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص 27.
[39] الأصفهاني، التقريرات، ص 39.
[40] التقريرات ، ص 42.
[41] المصدر السابق ،ص 24.
[42] التقريرات ،ص 270.
[43] الطهراني، العارف والصوفي ماذا يقولان؟ ص 249 -520 (بالفارسية) .
[44] المصدر نفسه، ص 252.
[45] المصدر نفسه، ص 352.
[46] العارف والصوفي ماذا يقولان؟ ص 253، (بالفارسية).
[47] انظر: عصار، سيد محمد كاظم، رسالة العلم (المجموعة الكاملة)، منشورات امير كبير، ص 1997، بالفارسية.
[48] حكيمي، محمد رضا، اجتهاد وتقليد در فلسفة ]الاجتهاد والتقليد في الفلسفة[، مؤسسة نشر الثقافة الإسلامية، 1999،ص 58، 73.
[49] الأصفهاني، أبواب الهدى، ص 6.
[50] حكيمي، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 58، بالفارسية.
[51] الطهراني، العارف والصوفي ماذا يقولان؟ ص 252، بالفارسية.
[52] حكيمي، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 60، بالفارسية.
[53] المصدر السابق ، ص 61.
[54] المصدر نفسه، ص 62.
[55] الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 126، بالفارسية.
[56] حكيمي، مكتب تفكيك (مدرسة التفكيك)، ص 365.
[57] مدرسة التفكيك، ص 344، بالفارسية.
[58] حكيمي، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 72، (بالفارسية).
[59] المصدر نفسه، ص 62.
[60] المصدر نفسه، ص 92.
[61] المصدر نفسه، ص 96.
[62] المصدر نفسه، ص 92.
[63] الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 65، (بالفارسية).
[64] مدرسة التفكيك،ص 351-352، (بالفارسية).
[65] الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 77، (بالفارسية).
[66] المصدر نفسه، ص 191.
[67] المصدر نفسه، ص 192.
[68] المصدر نفسه، ص 77.
[69] المصدر نفسه، ص 192.
[70] المصدر نفسه، ص 193 .
[71] المصدر نفسه، ص 123 .
[72] المصدر نفسه، ص 126 .
[73] حكيمي، مدرسة التفكيك، ص 365، (بالفارسية).
[74] المصدر نفسه، ص 366.
[75] مدرسة التفكيك، ص 366، (بالفارسية).
[76] المصدر نفسه، ص 366.
[77] المصدر نفسه، ص 365 .
[78] المصدر نفسه، ص 353.
[79] حكيمي، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 128، (بالفارسية).
[80] المصدر نفسه، ص 310.
[81] حكيمي، مدرسة التفكيك، ص 365، (بالفارسية).
[82] حكيمي، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، ص 310، (بالفارسية).
[83] المصدر نفسه، ص 92، (بالفارسية).
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية